إن كل فرد منا يعيش في حياة مليئة بالتحديات و الأحداث التي قد تترك في نفسه أثراً بسيطاً كان أم عميقاً,فكل ّيوم نحياه بشتّى المواقف و العثرات هو نتاج ما حملناه على عواتقنا في مراحل سابقة, و لأننا كائنات تسيّرها العاطفة بالفطرة فالكثير منّا يجد بعمقه أشباحاً لماضٍ أليم ترك شرخاً ينعكس أثره في حاضره و علاقاته وقد يمتد تأثيره ليحد من إنجازيته و يتدخّل حتّى في قراراته وهذا الأثر غالباً ما يحتاج يداً حانية تقوده نحو التشافي .

يتعامل معظم الأشخاص مع الندوب النفسية بطريقتين :إمّا يرمونها في أعماقهم ويتركون للأيام حِمل الاستشفاء بالنسيان, أو يبحث البعض عن طرق سحرية واهمين أنّ الحل يكمن بدواء فوريّ الأثر ثم يُردون خائبين, إذ أنّ كلا الطريقتين خاطئتين و حالمتين,  فالشفاء من الجراح النفسية مماثل للتداوي من الجراح الجسدية, بحاجةٍ لرحلةٍ طويلة وتعاونٍ مشترك و صبرٍ منك و اتّباع مجموعة خطوات تقودك رويداً رويداً في رحلةٍ  نحو التشافي الداخلي  .

رحلة نحو التشافي من الندوب النفسية

و لأنّه كما ذكرت بأنّ الجروح العاطفية كما الجروح الجسدية تترك ندباً يصعب محوها ما لم تُعالج حتى الشفاء , فإليك عزيزي القارئ بعض الطرق التي قد تكون سلّماَ لاكتشاف مكامن الجرح و أسبابه و السعي وراء التشافي:

     1. التعرف على الندوب النفسية و مواجهتها :

في بعض الأحيان لا يعي الشخص وجود جرح قديم بداخله إلا أنّ أثره يتحكّم بحاضره وقراراته وعلاقاته و لذا وجب علينا التعمّق بذاتنا لاكتشافها و التعرف على جروحنا و الاعتراف بوجودها .

فالخطوة الأولى نحو التشافي هي الوقوف أمام مرآتنا النفسية بشفافية تامّة و استنباط مكامن الندب النفسية و مواجهتها و معرفة أسباب حدوثها .

و قد تطرقت الكاتبة الكندية المختصّة في تشافي الجروح النفسية  ليز بوربو في العديد من كتبها، إلى بعضِ المشاكل التي يواجهها الإنسان مع نفسِه فقالت:

“ما لم تستطع حله بحب و تقبل في حياتك السابقة ستعيد تجسيده حتى تتمكن من ذلك و روحك ستختار الوالدين ، العلاقات ، الأبناء الذين سيساعدوك في تفعيل تلك الجروح وشفاءها!!” و كذلك ذكرت بأنّ:  ” إلقاء نظرة على واحدٍ أو بعضٍ من هذه الجروح، سيجعلنا نفهم طبيعةَ تأثيرها على الإنسان وتصرّفاته وردود أفعاله وعلاقاته مع الآخرين.”

ومن قولها هذا نستنبط أنّ للندوب أثر يصل ماضيك بحاضرك بل و يُلبس واقعك قناعاً يخفي حقيقتك و يُشابه جرحك و لذا وجب علينا  الوضوح مع أنفسنا و التعمق برحلتنا الداخلية .

      2. إطلاق العنان لنفسك بالتعبير عن مشاعرك وقودٌ للتشافي :

الاعتراف بوجود المشكلة ليس كافياً لحلها إنما قد تكون بحاجة لخطوات قد تأخذ بعض الوقت حتى تصل للحلّ المناسب و أحد أهم الآليات التي تلي التعرف على جروحنا العميقة هو التعبير عن مشاعرنا .

كثير منا يعتقد بأن تجاهل المشكلة أو كبتها كفيل بحلّ عقدتها وهذا أمر خاطئ تماماً, إذ أنّ التعبير عن المشاعر أحد أهم العوامل للتخلص من تراكم الآثار الناجمة عن الندبة, و ممكن أن تختلف آليات التعبير إذ يمكن اللجوء لتفريغ مشاعرنا إمّا بالحديث مع شخص نثق به وهنا تكمن أهمية العلاقات الجيدة بالأهل و الأصدقاء, أو بالكتابة و التدوين وهي من الآليات التي تساعدنا حين ممارستها بشكل دوري على اكتشاف مكامن في ذواتنا حتى نحن لم نتوقع وجودها مسبقاً , كذلك يمكن التعامل مع التعبير عن مشاكلنا بالرسم والفنّ و العديد من الطرق الأخرى .

     3. بناء علاقات اجتماعية :

كما ذكرتُ مسبقاً فإنّ وجود أشخاصٍ نثق بهم من الأصدقاء و الأهل و المعارف يعتبرُ من الوسائل المساعدة على الشفاء و لهذا من الواجب بناء علاقاتٍ اجتماعيةٍ جيّدة .

كذلك يجب أن نعي بأنّه كثيراً ما تتسبّب الندوب النفسيّة و بالأخصّ العميقة بانعزال صاحبها ولجوئه للوحدة, لذلك عزيزي القارئ مادمت تقرأ كلماتي و تعي بوجود ندبك فأنصحك و أوصيك بالمسارعة ببناء علاقات اجتماعية, فالانخراط بالمجتمع و التعرف على أشخاص جدد و الانخراط بأوساط اجتماعية جديدة يفتح أمام بصيرتك آفاقاً واسعة قد تسرّع عملية التشافي و تفتح عينيك على نقاط قوة لم تتوقّع وجودها بداخلك .

     4. تعلّم أن تحبّ ذاتك و تعتني بصحّتك الجسديّة والنفسيّة:

تفقدنا ندوبنا النفسية تقديرنا لذاتنا أو اهتمامنا بصحتنا الجسدية لذلك عليك دائما بالعناية بنفسك, لا تستسلم لصورةٍ تسجنك بشعور الضحية أو الفرد المنهزم و العاجز, بل اجعل ممّا أضعفك سابقاً وقوداً تشعل به فتيلَ مستقبلٍ أفضل.

مارس الرياضة فهي وسيلةٌ جيدةٌ جداً لتفريغ الطاقة السلبية وتجديد نفسيّتك بالإضافة للعناية بصحتك .

احرص على النوم الكافي و الغذاء الصحيّ المتوازن فالإجهاد الجسديّ من شأنه أن يزيد صعوبة التشافي.

يمكنك ممارسة التأمّل و اليقظة الذهنية و الذي سيعطيك بدوره مساحة للتعمق بنفسك و مساعدتها في تقبّل المشاعر.

و الأهم من ذلك احرص على تجذير علاقاتك الروحانية بالله, فالإيمان و العمق الروحاني و الصّلاة دواءٌ شافٍ لكلّ علة إذا ما مارسناه بمفهومه العميق و الحقيقي .

     5. التسامح والتصالح مع الجروح :

غالبا ما تتركنا  آثار التجارب السيئة بحالة من الرفض و الغضب البالغ, لذلك أحد أهمّ خطوات التشافي بعد الاعتراف بالمشكلة والتعبير عن مشاعرنا هو مواجهة نفسنا بحقيقة وجودها والتصالح مع هذه الفكرة .

فالتصالح مع الماضي و التسامح مع ذواتنا يرمي القيود والآلام في عالم التشافي أبداً, إذ أنّ التسامح لا يعني النسيان إنّما هو قرارٌ بعدم السماح للألم بأن يكون عقبة تعيق تقدّم حياتك الحالية .

و كن لطيفاً مع نفسك إذ أنّ وتيرة الشفاء و التخطّي تختلف من شخصٍ لآخر فلا تضغط على نفسك و كن صديق نفسك أوّلاً .

     6. النّمو الشخصي لتعزيز التشافي :

يقال بأنّ” ما لم يقتلك أثراك و قوّاك ” و كذلك ” يولد الإبداع من رحم الألم “

أي أنّ كلّ تجربة قاسية مهما آلمتنا فهي قد زادتنا قوة ونضجاً و فتحت لنا سبلاً لمهاراتٍ وتجارب جديدة نحياها بوعي أكبر .

فاسع لاكتشاف ذاتك الجديدة و بناء مهارات جديدة وابحث عن معنى أعمق في الحياة .

حدّد لنفسك أهدافاً صغيرة قابلة للتحقيق و امنح ذاتك بهجة تحقيقها , لا تتعلّق بصورتك القديمة, كن ممتنّاً للسّعادات الصغيرة و اكتشف ما تمتلكه من قدراتٍ جديدةٍ و أقبل دائماً على التجديد و الحياة .

   7. العمل مع معالجٍ نفسيّ كمرشد لخارطة التشافي:

إن وجدت عزيزي القارئ صعوبةً في التعامل مع مشكلتك لوحدك ووجدت الطريق صعباً فلا بأس من العلاج النفسي, بل على العكس قد يوفّر هذا الدعم المناسب واللازم ويساعدك في تطوير استراتيجيّات أفضل للتعامل مع الجراح النفسية, و يمدّك بمساحةٍ آمنة للتعبير عن المشاعر و معالجة الأفكار الناجمة عن الصدمات, فالمعالج يمكن أن يساعدك في تحديد أنماط السلوك السلبية ويعمل معك على تغييرها .

ختاماً لحديثنا  و في عالم اليوم، عزيزي القارئ، لا بدَّ أنك مررت سابقاً بواحدٍ أو أكثر من تلك المواقفِ السيئة، فيبقى الأثر عالقاً في ذاكرتك ، آسراً لشخصك الذي كُنتهُ قبل ذلك الموقف و بقدر ما تتجاهله إلا أنّ هذا لا يمنعه من ترك بصماته على سلوكك و تفكيرك و حتى على خياراتك.

ولكي لا تبقى هذه الجروح مفتوحةً للأبد عليك أن تكونَ واعياً وناضجاً إلى الحدّ الذي تعقد معه العزم على البدء بخطوات , و إن كانت بسيطة وصغيرة, لكبح تلك البصمات من التمدد في عاطفتك وخياراتك و علاقاتك و السعي حتى التشافي لمحو أثرها بالكامل, و ذلك لكي تمضي قدماً في طريق كشف صورتك الذاتية دون الغباش المصاحب لبصمات الماضي، و تذكر دائماً أنك قادرٌ على تجاوز الأشياءِ والحيثياتِ, و اصنع من ماضٍ أضعفك وقوداً يزيد شعلة القوة و نار الحكمة وشغف التقدم نحو أفضل صورة صحية من نفسك, و كن شجاعاً و ابدأ من الآن رحلتك الخاصّة نحو التشافي الداخليّ .