في أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام، ترسل وكالة الفضاء والطيران الأميركية ناسا المركبةَ الفضائية (أوروبا كليبر) إلى قمر المشتري (اوروبا) في مهمةٍ قالت إنَّ الهدف العلميّ الرئيسي منها هو ” تحديد ما إذا كانت هناك أماكن تحت السطح الجليدي لقمر المشتري (أوروبا) يمكن لها أن تدعم الحياة”!
والقمر (أوروبا) هذا هو رابع أكبر قمر من أقمار المشتري التي يزيد عددها عن 90 قمراً، وأصغر بقليل من قمر الأرض، لكنَّ رحلات الاستكشاف العديدة إليه كانت قد جمعت دلائل قوية على وجود محيط تحت قشرته الجليدية يحتوي على أكثر من ضعف كمية الماء الموجودة في جميع محيطات الأرض، لذا كان لوكالة ناسا خططاً مميّزة له، ستحمل (أوروبا كليبر )رسالة البشر إلى قمر المشتري (أوروبا)! ولن تكون المرة الأولى التي تطلق فيها ناسا “رسائل ملهمة إلى الفضاء” ، فهو تقليد درجَتْ عليه منذ زمن، لكنَّ الرسالة هذه المرة ستكون تحفة فنيةً بحقّ سنعرِضُ في هذا المقال تفاصيلَها، لكننا سنبدأ أولاً بتلخيص الخصائص التي جعلت من القمر (أوروبا) بديلَ كوكب الأرض الذي نتطلَّع ُ إليه!
ما الخصائص التي جعلت من القمر (أوروبا) مكاناً محتملاً للحياة؟
اكتشف العالم غاليليو القمر أوروبا عام 1610، لكنه لم يبرز كموطن محتمَل للحياة حتى 1977 عندما لاحظ العلماء وجود منافس حارة تخرج من صدعٍ في أعماق محيطه وأنَّ بلح البحر ومخلوقاتٍ أخرى تتجمّع حول تلك المنافس على الرغم من أنَّ نور الشمس لا يصل إليها، مما جعلهم يفترضون أنَّها تولِّد طاقتها بذاتها.
وقد أثمرت الجهود الدائبة لتفسير وجود تلك الحياة إلى اكتشاف العلماء عام 2009 أنَّ الأشعة الكونية تؤثر على المثلجات المائية الموجودة على سطح أوروبا وتحولها إلى أكسجين، وأنَّ محيط أوروبا يمكن أن ينتج من الأكسجين كميات أعظم مما تنتجه محيطات الأرض، وفي تلك الأثناء كانت أصوات التحذير من أنَّ “الأرض تحتضر” تعلو في جميع الساحات، فعداكَ عن استهلاك الغطاء الأخضر للأرض ومشكلات الغلاف الجوي وأعماق البحار والمحيطات ونقص الموارد والثروات، فإنَّ بعض الدراسات قد ذهبت إلى أنَّ نحو مليار شخص حول العالم لا يستطيعون اليوم الوصول إلى مياه صالحة للشرب، وأن حوالي ثلث سكان العالم -بالفعل- يعيشون تحت ضغوط مائية، وتوقع بعض العلماء أنه خلال 25 عاماً على أحسن تقدير سيصبح سعر جالون المياه العذبة أعلى من سعر جالون الغاز. وقد التزمت الأمم المتحدة عام 2000 بتخفيض عدد “النّاس من دون مياه ” في العالم إلى النصف بحلول 2015 لكنَّ ذلك لم يحدث>
ناسا تبحث عن وطنٍ بديل للبشر
في 2019، أطلقت ناسا رحلةً نحو المشتري للبحث عن حياة خارج كوكب الأرض، فعادت بنتائج مبشِّرة، وقد أوضح قائد الرحلة العالم لوكاس باغانيني الأمرَفي بيانٍ صحفي تلاه عقب الرحلة قال فيه”إنَّ العناصر الكيميائية الأساسية (كربون وهيدروجين وآزوت وغيرها)، ومصادر الطاقة هما شرطان من شروط الحياة المتوفّرة في جميع كواكب وأقمار المجموعة الشمسية، لكنَّ الشرط الثالث وهو الماء كان من الصعب إيجادُه خارج كوكب الأرض، لكننا اليومَ نؤكّد وجوده في قمر المشتري(أوروبا)، نحن لم نرصده مباشرة، بل تأكدنا من وجوده علمياً. ” وأوصى البيان الصحفي بالاقتراب أكثر من القمر (أوروبا) وتكثيف البحوث حوله لأن عناصر الحياة فيه باتت متوفرة.
وهذا ما حدث بالفعل، فوجّهت ناسا مركبة (جونو) التابعة لها والمستقرة في أحد مدارات المشتري منذ 2016 للاقتراب أكثر من القمر (أوروبا) والتحليق حوله على مسافة لا تتعدى 353كم، وقد أعطت البيانات التي جمعتها (جونو) آمالاً كبيرة في أن يكون أوروبا المكان الأكثر احتمالاً لاستضافة الحياة في نظامنا الشمسي لأنَّ سطحه يحتوي على ثاني أكسيد الكربون وينتج حوالي 1100 كغ من الأكسجين في كل ثانية!
واستمرَّ العمل، فبدأت التجهيزات عام 2020 لإطلاق مهمتين واعدتين لدراسة (أوروبا)، الأولى تابعة لوكالة الفضاء والطيران الأميركية ناسا وتسمّى ” بعثة التحليقات المتعددة حول القمر أوروبا” تقوم بها المركبة الفضائية (أوروبا كليبر)، والمهمة الثانية تابعة لوكالة الفضاء الأوروبية إيسا ESA وتسمّى ” المهمّة JUICE”, وقد أُطلِق المسبار الفضائي Juice بالفعل في إبريل 2023 نحو أقمار المشتري في رحلة تستمر ثماني سنوات وتبلغ تكلفتها 1.6 مليار يورو، على أن تتبعه (أوروبا كليبر) في أكتوبر من هذا العام لتدور حول المشتري -وهي تحمل رسالة البشر- لأربع سنوات بلا توقُّف ومن دون أن تهبط عليه.
ما هي الرسالة التي تحملها (اوروبا كليبر) إلى قمر المشتري؟
تحمل أوروبا كليبر رسالة البشر إلى قمر المشتري (أوروبا) مختصرةً الصلة بين الأرض وبينه في كلمة “ماء”، ومن أجل إنجاز الرسالة، جمع اللغويون العاملون في مختبرات ناسا تسجيلات لكلمة ” ماء” منطوقةً بأكثر من مئة لغة من ” عائلات اللغات حول العالم”، ثم نُقِشَت على الوجه الخارجي لغطاءٍ يسدُّ قبو المركبة، وهو قطعة من معدن التنتاليوم مثلثة الشكل بمقاس 18*28سم، وحُفرت الموجاتُ لتبدو وكأنها تشعُّ من المركز الذي نُقشت فيه كلمة ماء بلغة الإشارة الأميركية، ويمكن الاستماع إلى التسجيلات المذكورة عبر الرابط http://go.nasa.gov/MakeWaves
ولم يُترك الوجه الداخلي للوحة خالياً من الإشارات الملهمة، حيث اختارت ناسا الشاعرة الأميركية الشهيرة آدا ليمون لتنقشَ بخط يدها قصيدة نظمتها خصيصاً للمناسبة، ثم أطلقت بعد ذلك في الأول من يونيو 2023 حملة بعنوان “رسالة في زجاجة” قالت إنَّ الهدف منها هو رفع مستوى الوعي العام بمهمة المركبة الفضائية (اوروبا كليبر)، ودعت البشر في أنحاء العالم إلى إرسال أسمائهم إلى المشتري (Send Your Name To Jupiter)، وأتاحت للراغبين منهم تسجيل أسمائهم عبر رابط الكتروني على موقعها، فبلغ عدد المسجلين حوالي 2.6 مليون اسماً قام الفنيون بطباعتها على رقائق دقيقة من السيلكون شُكِلَت بالقطعة المثلثية إلى جانب قصيدة آدا ليمون. وفي الوقت الذي سيكون فيه (أوروبا) مشغولاً بقراءة أسمائنا وفهم القصيدة، ستقوم معدّات البحث الخاصة بالمهمة بجمع بيانات عن غلافه الجوي وقشرته الجليدية والمحيط تحت سطحه في محاولة للتأكد ما إذا كان صالحاً للسكن أم لا، فنحن لن نقطع 800 مليون كم لننقل إليه تحيّاتنا!
تحمل قصيدة آدا ليمون عنوان ” في مدح الغموض: قصيدة لأوروبا”، وتعبِّر كما تقول ناسا عن الارتباط بين عالَمين، الأرض التي تتطلّع إلى فهم ما يمكن أن يجعل العالم صالحاً للسكن، والقمر (أوروبا) المنتظِر هناك بأسرار لم تُكتشَف بعد، تقول القصيدة (بترجمتي الخاصة إلى العربية مع بعض تصرّف):
في اتّساع الأسود الحبريّ المتقوّسِ تحت سماء اللّيلْ /نشيرُ إلى كواكبَ نعرفُها
نعلّقُ بسرعة أمنياتٍ على النجوم/ ومن الأرض نقرأ السماءَ كأنها/ كتابٌ من الكونِ خبيرٌ لا يخطئ!
ولكن،هنالك أسرارٌ تحت سمائنا: أغنيةُ الحوت/ وطائرٌ غَرِدٌ يغنّي/ ونداؤه في الغصنِ هزّتهُ الرياح!
نحن مخلوقات من الرهبةِ الأبديّة/ نتوقُ إلى الجمال/ في أوراق الشجرِ وفي الأزهار/في الشمسِ وفي الظلّ
وليس الظلام من يوحِّدُنا/ ولا تلك المسافاتُ الباردةُ من الفضاء
لكنّه الماءُ في كل حبَّة مطرٍ/ في كلّ نهرٍ/ في كلّ نبضٍ ووريد!
يا أيّها القمرُ الثاني، نحن كذلك من ماءْ/ من البحار الشاسعةِ المغريةْ!
من العجائبِ مصنوعون/ من شؤون الحبِّ الصغيرة والكبيرةِ لعوالمَ لا مرئيّة!
/من الحاجة للنداء عبر الظلامِ مصنوعون!
وإذا رحتَ عزيزي القارئ تتساءل إن كان ثمَّة أحد على ذلك القمر سيقرأ رسالتنا وقد أخفَتْ ناسا الأمرَ عنك، فالجواب بكلِّ تأكيد: لا! وإن كان لك أن تفترض وجود مخلوقات فضائية هناك تفوقنا تطوّراً وذكاءً، فتخيَّل كم سيكون لطيفاً لو أنها استطاعت فهم رسالتنا على الشكل الصريح الآتي: نحن قادمون لسرقة موطنكم! لقد رأى أسلافها العالمَ غاليليو في ليلة من ليالي يناير 1610 يوجه التلسكوب نحوها ثم يفتح عينيه ويقفز فرحاً، ولا بدَّ أن تلك المخلوقات المسالمة قد شعرت ببعض الامتعاض لاكتشاف وجودها، فمن المرجّح أنها قد راقبت لملايين السنين البشرَ وهم يدمّرون أرضهم! ولئن فاتك عزيزي القارئ تسجيل اسمك في “رسالة في زجاجة”، فإنه لم يزل بإمكانك قراءة النصّ الأصلي لقصيدة الشاعرة آدا ليمون بالإنكليزية على الرابط http://Message in a Bottle
التعليقات 0
اضف تعليق