في الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل، وبينما أقوم بجولتي الأخيرة على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك لفت نظري منشور unpopular opinion حول (موضوع الزواج عن حب vs الزواج التقليدي)
وهو واحد من مئات بل آلاف المنشورات التي يتحول فيها إبداء الرأي والاختلاف لحرب إلكترونية يتراشق أطرافها شتى أنواع التنمر والاضطهاد وخطاب الكراهية لينقض على الآخر بضربة قاضية ينتصر فيها لرأيه المبجّل ..
وفي عالم موازي، نحلم فيه بحياة تتنامى فيها أواصر الأخوة والتسامح والسلام، لا أجد رابط فيما هو مُتخيل إلاّ حقيقة واحدة وهي تقبّل الآخر ..

فإذا كنت على استعداد للتعري أمام نفسك والغوص عميقاً داخل خلايا مخك لتكتشف حقيقة تفكيرك ومدى احترامك للاختلافات ومعرفة هل مازلت عالق في أنصاف الاشياء و تحيى نصف حياة أم لا ؟
فأنت في مكانك الصحيح، تابع معنا مقالنا حول تقبّل الآخر مستحضراً قلبك وعقلك والسؤال الأبدي:
“أما يستقيم أن نكون أخواناً ولو اختلفنا في مسألة؟!”

حكاية سالي وآن :

هي جزء من نظرية علمية حديثة مهمة جداً تدعى

(theory of mind)، والتي تعتبر من الاكتشافات التي غيرّت مسار العلم بشكل غير مسبوق، وغيّرت في فهمنا أنفسنا وغيرنا وعلاقاتنا ببعضنا..

والقصة تدور أحداثها حول (سالي) و(آن)، التي تملك كل واحدةٍ منهما سلة وصندوق على التوالي .
قامت (سالي) بوضع كرة في سلتها ومن ثم غادرت المكان، لتقوم (آن) خلسة بأخذ الكرة ووضعها في صندوقها .

لكن (سالي) لم تهاجر، وسوف تعود لتأخذ الكرة الخاصة بها، ف برأيك ووفقاً للمعطيات السابقة، أين سوف تبحث عن الكرة؟
طبعاً الإجابة المنطقية والصحيحة أنها ستبحث عنها في سلتها في المكان الذي تركتها به، رغم أن صديقتها (آن) وأنت وكل من يقرأ يعلم أنها ليست هناك ..!

والآن من المؤكد يتبادر إلى ذهنك ما فائدة هذا الكلام وما معناها ؟

دعني أخبرك أولاً عن فائدته، هو اختبار بسيط لكمية ووظيفة الخلايا المرآتية في دماغك .
بمعنى آخر، لو كانت إجابتك أنها ستبحث عن الكرة في سلتها فهذا يعني أنك استطعت أن تضع نفسك مكان (سالي) وتفكر وفقاً للمعطيات والمعلومات التي تملكها هي وليس أنت، فهنيئاً لك خلايا مخك المرآتية موجودة وتعمل بكفاءة.

لكن للآسف العكس صحيح، أي لو كانت إجابتك أنها ستبحث في صندوق (آن)، فعذراً عليك التوجه لأقرب مرآة لتواجه بها نفسك ..

أما ياصديقي بالنسبة لمعناه .. فهذا موضوع مختلف وربما سيحمل لك بعض المفاجآت .. فهل أنت مستعد؟

حكاية (سالي) و(آن) تحمل رسالة مفادها أن ليس كل ما تراه من وجهة نظرك صحيح مئة بالمئة سيكون من وجهة نظر الآخر صحيح في نفس الدرجة، لأنه ببساطة المعلومات التي تملكها مختلفة تماماً عن المعلومات التي يعرفها هو، فلا تنظر إلى نفسك على أنك الأصل في كل شيء، وعلى الآخرين أن يكونوا صورة عنك، لدى كل الناس ما يُمدح وما يُذم، ولديهم ما هو صواب وما هو خطأ.
ومهما كنت تملك من حجج وبراهين هذا لا يعطيك الأحقيّة بتنصيب نفسك آلهة الحكمة وتهميش الآخر ..

حكاية (سالي) و(آن) هي وقفة مع ذاتك لتعرف مقدار استطاعتك بأن تضع نفسك مكان غيرك وأن تتفهم طريقة تفكيره وسبب اختياراته التي بنيت على عوامل مختلفة تماماً عنك ..

هي وقفة مع ذاتك لتعرف مقدار تقبّل الآخر ووعي الاختلاف لديك .

خلط المفاهيم فخ عدم تقبّل الآخر:

-“بس أنا ما فيني كون كول ولطيف مع سلوك أنا برفضه.. ولا اسكت عن فكر أنا ضده.. هاد نفاق !”
كثيراً ما ينتهي أو يبتدأ أي نقاش بهذه الجملة التي تكون بمثابة شمّاعة نعلّق عليها سبب رفض القناعات الأخرى وعدم تقبّل الآخر ..
لكن نحن هنا لإنهاء سطوة هذه الحجة وفتح آفاق جديدة .

مبدئياً هناك فرق ما بين مصطلحي القبول(agreement )وهو الموافقة والإقرار بصّحة الشيء والتقبّل(acceptance )
الذي هو التفهّم مع الإنكار .. فأين النفاق !
تقبّل فكر أو فعل لا يعني تبّنيه واكتسابه ولا حتى الإيمان به وضمه لقائمة معتقداتك ما دام لا يتماشى مع قناعاتك، إنما هو سعة أفق .. وسماء تصطف بها نجوم من كواكب مختلفة ..
فمن حقك أن ترفض سلوك معين، لكن ليس من حقك أن تحقّر صاحب هذا السلوك ..
من حقك أن تدافع عن أفكارك ومعتقداتك، لكن دون المهاجمة أو السخرية من معتقدات، وأفكار النقيض..
وتذكّر “رأي صواب يحتمل الخطأ و رأي الآخر خطأ يحتمل الصواب”

تنوع الثقافات منبع الاختلافات:

التنوع الثقافي حول العالم يزيد الاختلافات، لكن تقبّل الآخر يزيل المسافات

يُحكى أنه في قديم الزمان وفي المقبرة تحديداً كمكان .. شخص فرنسي الجنسية يزور قريبه ويضع له الزهور على قبره في نفس الوقت الذي كان به شخص ذو جنسية هندية يزور قريبه ويضع له صحن من الأرز على قبره ..

فازدرء الفرنسي من الهندي وقال له متى يصحو قريبك ليأكل الأرز ! ليرد عليه قائلاً عندما يصحو قريبك ليشم الزهور !
استنكار متبادل لمجرد انحدار كلٍ منهما من بيئة معينة وثقافة مختلفة، لكن الحياة ليست إما أبيض أو أسود عش بمتسّع من الرمادية، فكما أنت ترى غيرك على خطأ فهو كذلك وكما أنت تنظر لمعتقداته بعين الغرابة والدهشة فهو كذلك.

لأنه وببساطة المتاح لك غير المتاح له.. ظروفك ليست كظروفه وما تربيت عليه من أخلاق وعادات يختلف عما تربى عليه من قيم .. مستوى ذكائك غير متساوي مع مستوى ذكائه .. اهتماماتك واحتياجاتك لا تصّب في نفس دائرة رغباته ..
و وحده من يقدر على استيعاب هذا يستطيع أن يفهم، ويعذر، ويسامح، ويمتنع عن إطلاق احكام سريعة وقاسية.
سوف يتقبّل الآخر ويستحمل التناقض، سوف يكبر عقلياً، وينمو نفسياً، وينضج إنسانياً

تقبّل الآخر وعلاقته بالنمو العقلي:

لو سألتك، في علاقتك مع شريكك كم تعطي للتقبّل نسبة في المئة؟
100% أي متقبّل كل تفاصيله وجزئياته، أم 50-70% علاقة مع جزء من كل ؟
لنقوم بتوسيع الدائرة أكثر
كم نسبة رؤيتك من الآخر وكم المساحة التي تعطيها له ليكون نفسه الحقيقية معك؟
كم نسبة تقبلك لضعفك وخطأك، وضعف وخطأ غيرك ؟
هل الدين بالنسبة لك هذا “ما وجدنا عليه آباءنا” والله غافر الذنب فقط أو شديد العقاب أو “غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب “؟!
هل الغرب يعني لك التحرر في العيش والانحلال الأخلاقي وغير مكترث بالتقدم العلمي والتكنولوجي؟
هل تقيّم كل شيء من حولك من جانب واحد تراه مهماً متناسياً باقي الجوانب؟
إذا كانت إجابتك لا .. فأنت بال safe zone
أما إذا كانت إجابتك نعم، فأهلاً بك في عالم الأنصاف الذي لا يتجاوز العمر النفسي لرواده 6 أشهر فقط.

العلاقات بمفهومها الشامل تنطوي على نوعين:
علاقة جزئية تكون مع جزء واحد أو أكثر لكن بشكل محدود دون النظر للأجزاء الأخرى كاملةً.
وعلاقة كُليّة تكون مع كل أجزاء الآخر وتفاصيله دون اجتزاء أو اقتصاص.
-طبعاً يقصد هنا بالآخر أي شخص أو شيء-

لنوضح أكثر، في علاقتك مع الشريك عندما تراه على أنه أحد ملائكة السماء وأعجوبة الدنيا الثامنة ولا تريد أن تعترف ببشريته وأنه من الممكن أن يخطأ أو ينفعل أو يضعف فأنت على علاقة جزئية معه، والعكس بالعكس، عندما تجعل من كل إيجابياته هباءاً منثوراً وتختزل كل معاناته وظروفه بسبب موقف أو صفة ..

عندما لا ترى من دينك سوى إطالة اللحية وتقصير الثوب وتعدد الزوجات ورب شديد العقاب، وتهمل مكارم الأخلاق وجوهر الدين العميق وعظيم رحمة هذا الرب، فتكون علاقتك مع دينك وربك علاقة قاصرة ناقصة ..

عندما تكون كل رؤيتك للغرب على أنه انحلال وفسوق وجنس وفساد ولا تضع هذا بجانب التقدم العلمي والثقافي، فكأنك ترى بعين واحدة مغمضاً الأخرى، وطبعاً ينطبق هذا الكلام فيما لو كنت تقدّس الغرب وإنجازاتهم وتقدمهم علينا في معظم مجالات الحياة متناسياً التفكك الأسري والمعاناة الفردية والاجتماعية من هذا الشيء، ففي كلا الحالتين علاقتك غير كاملة ولم ترتقي لنعمة تقبّل الآخر ككل ..

لنسافر بالزمن إلى الوراء ونسقط نوعّي العلاقات هذا على رحلة نمونّا النفسي، بدايةً من أشهر أعمارنا الأولى وحتى سنوات بلوغنا ..
فالعلاقة الجزئية تمثل الطريق السهل الذي يسلكه الطفل في بداياته الأولى للتعرف على الأشياء والأشخاص من حوله، وفهم أبجدية الحياة بمنظور واحد فقط إما يمين أو شمال.

وعلاقة كلية وهي الأصعب عندما يبدأ عقل الطفل يكبر ووعيه يتسع، ونمط علاقاته يتغير، ويكتشف أن الشخص أو الشيء الواحد يحوي أجزاء كثيرة مختلفة، ومن الممكن أن تكون متناقضة، وأن كل شر فيه خير وكل خير فيه شر، وكل ما حولنا منظومة متكاملة لا يمكن اختزالها بجانب ولا تحديدها بعين قاصرة ترى ما تهوى وترغب فقط ..

ولك الحرية، إما أن تبقى عالق في عمر الستة أشهر أو أن تخرج لدائرة من كثر علمه قل إنكاره على الناس ..

الحوار سر من أسرار تقبّل الآخر:

الحوار والنقاش يمهد الطريق ل تقبّل الآخر

أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة أكبر للحوار وتبادل الآراء بالقدر الذي أعطت به مساحة أكثر للتعنيف والتنمر الإلكتروني وذلك لأن العقلية التي تدار بها تلك الحوارات إما عقلية استعلائية ترى الحق من نصيبها هي فقط، أو عدائية تريد إخضاع الآخر وتركيعه لرؤاها دون الاعتبار لحرية فكره وعقيدته وهذا ما يزيد المشكلة تعقيداً وتطرفاً ويسلب هوية الحوار وهدفه الذي يصب في البحث عن الحقيقة المُختلف عليها بمقابلة الأفكار بالأفكار، والبراهين والأدلة ببعضها البعض حتى يحصل التغيير في القناعات وتتبدل الأفكار دون ضغط أو إكراه.
وقد لا يحصل هذا، لكن ذلك لا يلغي من حقيقة أن الحوار دليل على التسامح وسر تقبّل الآخر وهو غاية ما يسعى إليه كل عاقل للحفاظ على السلام والقيم الإنسانية .
فلا تحارب من أمامك لتغييره .. فالتغيير يبدأ من التقدير، وبإدارة نقاش يحفّز عقله على إعادة النظر والتأمل في سعة الخيارات، كأن تقول له “خيار جيد، لكن هل تعتقد هذا هو الأفضل لك ؟ ”
“وجهة نظر تحترم، لكن أليس برأيك أن هناك رأي آخر مناسب..”
وغيره من الأسئلة التي تفتح العقل وتزيد الوعي وتعزز تقبّل الآخر ..

تقبّل الآخر، اليوتوبيا المنتظرة:

تقبّل الآخر والتلاحم يشكل العالم بأسره

لاشك أن أمنية البشر المستديمة هي العيش بمجتمع يقبل الجميع ويستطيع كل إنسان مهما كان انتماؤه العيش بحرية والتمتع بممارسة طقوسه، طبعاً دون المساس بمعتقدات أو حرية غيره.

ولا يمكن أن يتحقق هذا إن لم نفهم قوله تعالى {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}
هل ترى ! اختلافنا آية من آيات الله، أي إعجاز وحكمة بالغة لإعمار الأرض، ولو تشابهنا في كل شيء لما بُني حجر على حجر، فمراد الله بنا أن نكون مختلفين .. لأن في الاختلاف سعة وفي السعة رحمة.

لذا العيش بنعمة تقبّل الآخر تُزهر خيراً أينما حلّت وتفتح الباب لطرح مختلف الأفكار والآراء، وبالتالي ابتكارات أكبر وحلول أكثر إبداعاً.

تخفف النزاعات الناتجة عن سوء الفهم والتحيزات، وبالتالي بيئة أكثر سلاماً وتعاطفاً.

تعلّم قيم التسامح والتفهم، وبالتالي بناء مجتمعات أكثر شمولية وانسجام.

والأهم تخلق علاقات أعمق وأكثر صدقاً وأماناً ليكون الأشخاص أنفسهم دون خوف من الرفض.


ومن هذا المنطلق، يمكننا القول أن تقبّل الآخر هو تقبّل للذات ضمناً، ومساحة للاعتراف ببشريتنا واختلاف تكويننا ومعتقداتنا..
هو الخروج من عباءة نصف الحياة والتمتع بعيش حالة كاملة مع الحياة، واعتبار كل يوم فرصة لبداية جديدة بعد تجربة فاشلة ومسار خاطئ ..
تقبّل الآخر يعني حياة صحيّة سليمة من الأمراض النفسية والكراهية ..
تقبّل الآخر يعني “ادُع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ” دون أن تنسى “لست عليهم بمصيطر” ..

هذا هو الدين الحقيقي ..
وهذا هو الحب الحقيقي ..

فهل عرفت الآن أين أنت؟ومن تكون؟!