تبدأ القصة من أعراض قد تأتي لمرة واحدة وتزول مباشرة، وقد تتكرر هذه الأعراض، وهنا يشعر الإنسان بوجود خطر ما في جسمه، ولا يعرف من أين يبدأ في تقصي الأسباب نظراً لاختلاف مناطق الشكوى واختلاف أشكالها، من مشاكل هضمية أو مفصلية، وقد تصل إلى نوبات تنميل في الأطراف وتعرق وإحساس بضيق التنفس، وكأن لحظات الموت تقترب، وهذا مايزيد الأمرسوءاً.  وتبدأ حالة التوهان وعدم التوجه هائما على وجهه إلى العيادات الطبية لمعرفة أسباب ما يحصل معه، و تبين الإحصاءات الطبية أنه من بين كل مئة زائر ممن يشكون من الأعراض السابقة، يوجد ثلاثين منهم لا يظهر سبب جسدي واضح لشكاياتهم وهذا ما يوصلنا إلى التعرف على الجانب الآخر لهذه الشكايات وهو الاضطراب الجسدي أو الجسدنة.

تعريف الاضطراب الجسدي

هو نوع من الامراض الجسدية ذات المنشأ النفسي، فالحالة النفسية للإنسان تجعله يشعر بالألم في الجسم، وقد تكون الأعراض الجسدية واضحة و مستمرة، فالاعراض الجسدية غالباً ما ترجع لأسباب نفسية عندما يعجز الاطباء عن تبريرها بأسباب عضوية، تعرف هذه الحالة باسم الاضطراب الجسدي أو الجسدنة، حيث يقوم الجسم بتحويل الألم النفسي إلى ألم جسدي، وتسمى هذه الحالة متلازمة بريكيت نسبة للطبيب الفرنسي بول بريكيت مكتشف هذه الحالة.

عندما يقول الطبيب أن سبب الألم نفسي قد يبدو للمريض بأنه اتهاماً له بواقعية الألم أو بتوهمه للألم، لكن الجسدنة هي عملية حقيقية تنتج عن تحويل الآلام النفسية على اختلاف أشكالها إلى آلام جسدية يشعر بها المريض فعلاً، تحدث نتيجة نقص المناعة الناتج عن الحالة النفسية، وهي عملية غير واعية وخارجة عن سيطرة المريض، حتى يصل الأمر في بعض الحالات الجسدية إلى أمراض خطيرة مثل أمراض المناعة الذاتبة كالصدفية والذئبة الحمامية.

أسباب الاضطراب الجسدي

الإجهاد و التوتر

يسبب التوتر المستمر وحالة القلق خللاً مزمناً في عمل الجسم، ويمكن لزيادة هرمونات التوتر الكورتيزول والأدرينالين لفترة طويلة أن تؤثر على عمل الأعضاء، ويسبب آلاماً مختلفة لايمكن تشخيصها على أنها أمراض عضوية بل أمراض ذات منشأ نفسي.

القلق والاكتئاب

تؤدي الحالة النفسية غير المستقرة إلى انخفاض قدرة الحسم على تحمل الألم، ينتج ذلك عن تحفيز الناقلات العصبية المسؤولة عن نقل الشعور بالألم فتصبح بعض عمليات الهدم والبناء الاعتيادية في الجسم مؤلمة بسبب الحالة النفسية، كما تصبح الآلام العادية التي لانشعر بها قي الحالة الطبيعية آلاما شديدة ومستمرة بسبب انخفاض عتبة الألم.

الصدمة النفسية تؤدي إلى الاضطراب الجسدي

تعتبر الصدمة النفسية من أبرز مسببات الأمراض الجسدية النفسية مثل الفقدان و الخيانة الزوجية، وغالبا ما يتم تشخيصها كجزء من اضطراب ما بعد الصدمة، وقد تصل الأمراض الجسدية  ذات المنشأ النفسي بعد الصدمة إلى مراحل متقدمة مثل الشلل وفقدان البصر المؤقت.

الوسواس القهري المرضي

من يمتلك هذا النوع من الوسواس يعتقد أن كل عارض صحي يمر به هو مرض خطير، ويعتبر هذا النوع من الوسواس من أهم أسباب اضطراب الجسدنة، فقد يعاني من ألم في البطن وأول مايتبادر إلى ذهنه سرطان القولون، أو أن يعاني من خفقان في القلب فيشعر وكأن ذبحة صدرية قد أصابته، ويبقى في حالة من الشك والوسواس الدئم تجاه أي حالة يمر بها.

الابتزاز العاطفي

إن خلق الألم الجسدي قد يكون ردة فعل عاطفية غبر واعية هدفها الحصول غلى التعاطف من الغير والاهتمام أو الإعفاء من الواجبات الاجتماعية، يتواجد هذا النوع من الألم بشكل عام لدى من يشعرون بازدراء لذواتهم، فيستجيب الجسد ويشعر بالألم ليكونوا موضع اهتمام من المحيط.

الاضطراب الجسدي مرض وأبرز أعراضه

  • الأرق وصعوبات في النوم.
  • أعراض هضمية مثل ألم البطن و الإمساك والإسهال وسلس البول.
  • آلام المفاصل والعضلات، حيث أن المصاب بالاكتئاب يشكي من آلام في المفاصل والعضلات وذلك لأن التوتر والاكتئاب يؤدي الى تشنج عضلات الجسم.
  • أعراض عصبية مثل الصداع، مشكلات في الحركة، الدوخة والاغماء.
  • الشعور بالقلق الشديد والخوف من الأعراض التي يشعر بها.
  • قيام المريض بمراجعة الطبيب وعدم تصديق نتائج الفحوصات الطبية.
  • صعوبة في أداء المهام بسبب التفكير المستمر بالأعراض.
  • إحساس المصاب بالخمول والشعور المتواصل بالتعب وعدم إمكانية فعل أي شيء، وانعدام الرغبة في إنجاز الأنشطة الروتينية، إضافة إلى  مشاكل في المزاج والتفكير.

الجسدنة ليست وهماً

زيارة الطبيب لمعرفة الأسباب

الاضطراب الجسدي يحتاج إلى طبيب

كل من يعاني من واحد أو أكثر من أعراض الجسدنة كخطوة أولى يجب عليه الذهاب إلى الطبيب، الذي يبدأ عادة في البحث عن تفسير مادي للأعراض الجسدية من خلال إجراء التحاليل الطبية اللازمة، وإجراء الفحص السريري وإجراء الفحص الشعاعي، وعندما يعجز عن إيجاد التفسير يتم إرسال الحالة الى الطبيب النفسي الذي بدوره سوف يقوم بجمع بعض المغلومات عن المريض، وسؤاله عن الأعراض التي يشعر بها وعن الوقت الذي بدأت به، ويسأل عن مصادر القلق في حياة المريض.

يشتطيع الطبيب تشخيص الحالة عن طريق التركيز على طريقة تفكير المريض، حيث أن أفكاره المفرطة حول مخاطر أعراضه واستهلاك طاقته ووقته في التفكير بالأعراض، إضافة إلى عدم قدرته على القيام بالأنشطة اليومية واستمراره على هذا الحال لمدة تزيد عن ستة اشهر، دليل قوي وقد يكون جازماً على الإصابة بالاضطراب الجسدي.

علاج الاضطراب الجسدي

العلاج السلوكي المعرفي

يعتبر العلاج السلوكي المعرفي من التقنيات الأكثر شيوعاً للتعامل مع الأمراض الجسدية ذات المنشأ النفسي، حيث يستهدف هذا العلاج اكتساب مهارات جديدة للتعامل مع المواقف المقلقة من خلال فهم أعمق للذات، وتعديل السلوك الذي يسبب المشاعر السلبية، و العمل على تصحيح نمط النفكير ليكون إكثر ايجابية.

الأدوية والعلاج الطبيعي

الأدوية جزء أساسي من التعامل مع الأمراض الجسدية النفسية، لأن الآلام الجسدية ذات المنشأ النفسي هي آلاماً حقيقية وليست أوهاماً بالضرورة، فألم البلعوم  مثلاً قد ينتج عن إلتهاب سببته حالة نفسية وخلل الكيميائي في الجسم مايستدعي الحصول على مضادات إلتهاب، إلى جانب السيطرة على الحالة النفسية من خلال إعطاء مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، أو مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات تخفف الأعراض المستعصية المحددة مثل الصداع، والألم العضلي، والألم المزمن،كما يحتاج بعض المرضى إلى الحصول على العلاج الطبيعي والفيزيائي.

السيطرة على القلق والإجهاد

التوتر والإجهاد النفسي من العوامل الخطرة على الصحة حتى وإن لم تنعكس كآلام جسدية، لذلك يجب التدرب على إدارة القلق والتوتر بشكل جيد وفعال للسيطرة على الآلام الجسدية ذات المنشأ النفسي.

التخلص من هرمونات التوتر لمعالجة الاضطراب الجسدي

ممارسة الرياضة تساعد في علاج اضطراب الجسدنة

ممارسة التمارين الرياضية تساعد في معالجة الاضطراب الجسدي

بما أن السبب الأرجح للمشاكل الجسدية النفسية هو فرط هرمونات التوتر الكورتيزول والأدرينالين، تعتبر الرياضة والأنشطة البدنية على رأس القائمة للتخلص من هرمونات التوتر في الجسم، مثل المشي والجري والرقص وركوب الدراجة الهوائية والسباحة. حتى وإن لم تقض هذه التمارين على الآلام  الجسدية النفسية، لكنها على الأقل تخفف من أعراض الاضطراب الجسدي بين نوبة وأخرى.

تمارين التنفس والاسترخاء تساعد في التخلص من الاضطراب الجسدي

لايمكن القول أن التنفس العميق سيعالج آلام الصدر ذات المنشأ النفسي، لكن تمارين التنفس العميق والاسترخاء والتأمل جميعها من التقنيات الجيدة في التعامل مع الأمراض الجسدية النفسية.

وضع حد في التعامل مع الآخرين

تعلُّم الرفض عند عدم القدرة على القيام بفعل الأشياء التي ترضي الآخرين يؤدي إلى تقليل الضغط النفسي، إذ إن الموافقة الدائمة على تنفيذ طلبات الأشخاص في الوسط المحيط يشكل عبئاً نفسياً، لأن أي رفض  سيواجه بالتعنيف والتنمر، ويتولد داخليا الشعور بالتقصير والإحساس بالذنب، مما يؤدي إلى الوقوع  تحت تأثير ضغط نفسي وعصبي.

الجسدنة أحد الحيل والآليات الدفاعية

ظهر مصطلح  الآليات الدفاعية  في إطار نظرية التحليل النفسي لعالم النفس فروريد، وعرفها على أنها مجموعة من الاستراتيجيات النفسية التي يمارسها الفرد في مستوى اللاوعي ليتمكن من تخطي المشاعر السلبية.

أنواع الآليات الدفاعية

من الحيل الدفاعية التي يلجأ إليها اللاشعور  والتي سنذكر بعضا منها

الكبت

هو استبعاد مثير للقلق كالدوافع والانفعالات والأفكار الشعورية المؤلمة والمخفية والمخزية، وطردها إلى حيز اللاشعور، إلا أن عملية الاستبعاد هذه ليست تامة، بمعنى أن الفكرة لم تمت وإنما تم الاحتفاظ بها وبقوتها، ومن ثم تبدأ في التعبير عن نفسها في صورة أحلام أو أخطاء أو زلات اللسان أو الشعور بالضيق أو الإحساس بالذنب.

التبرير

هي حيلة دفاعية يلجأ إليها الفرد عندما يواجه موقفاً لا يستطيع فيه أن يتصرف تصرفا مقبولاً اجتماعياً، أو أن يذكر الأسباب التي دفعته إلى هذا السلوك فيذكر أسبابا زائفة يفسر بها الواقع، ولذلك فإن التبرير يأتي غالبا نتيجة لصراع بين مايريده الفرد فعلا وبين مايمكنه أن يحققه أو يصل إليه.

الإسقاط

هو حيلة يحمي بها الفرد نفسه من الوعي بمشاعره غير المقبولة بأن ينسبها إلى غيره، وإلقاء اللوم على الآخرين للأخطاء التي يرتكبها.

النكوص

هو حيلة يلجأ إليه الفرد بالرجوع أو النكوص إلى مرحلة سابقة من مراحل العمر، وممارسة السلوك الذي كان يمارسه في تلك المرحلة لأن هذا السلوك كان يحقق له النجاح في تلك المرحلة العمرية.

التعويض

هو حيلة دفاعية يقوم بها الفرد عندما يعاني من بعض مشاعر النقص و الحرمان في إحدى نواحي حياته، وذلك من أجل التغلب على الشعور بالدونية والوصول بالذات إلى مرحلة التقدير.

الإزاحة والاستبدال

هي إعادة توجيه الانفعالات المحبوسة نحو أشخاص أو موضوعات أو أفكار غير الأشخاص أو موضوعات أو الأفكار الأصلية التي سببت الانفعال، وعادة تكون الأشخاص أو الموضوعات أو الأفكار التي تزاح إليها الانفعالات هدفاً آمناً أو على الأقل أكثر أمناً من الهدف الأصلي.

التعميم

هو حيلة يعمم بها الإنسان خبرته من تجربته السيئة على سائر التجارب المشابهة أو القريبة منها، وهو كحيلة لخفض التوتر تحاول تجنيب الإنسان الآلام التي عانى منها في تجربته الأولى باجتناب كل المؤثرات المشابهة.

الخيال والتخيل

إن الخيال يخفف عن الإنسان الكثير من الضغوط الواقعة عليه، ومن الممكن أن يصوغ الإنسان العديد من السيناريوهات في عقله وبها يجد العديد من الحلول وبالتخيل أو الخيال يحقق الإنسان ماعجز عن تحقيقه في الواقع.

الإنكار

هو إنكار الفرد للواقع المؤلم أو المسبب للقلق وذلك بالإنكار اللاشعوري لما هو موجود، وقد يكون الواقع الموجود فكرة أو رغبة و حاجة يحاول به الفرد بناء أوهامٍ قائمةٍ على إنكار الواقع، ومن ثم التصرف في ضوء هذه الأوهام الذاتية بغض النظر عن مدى تناقضها مع الواقع.

التكوين العكسي

ويتمثل في مبالغة الشخص في إظهار مشاعر وصفات وانفعالات ورغبات ودوافع مقبولة اجتماعياً لإخفاء مالديه من انفعالات و رغبات غيرمقبولة اجتماعياً، يلجأ الشخص عادة إلى هذه الحيلة لإخفاء مشاعر العداوة والحسد والحقد والغيرة عنده لأشخاص مهيمنين في حياته، أو لتغطية خوف غير منطقي يهدد تقديره لذاته أو يسيء إلى مركزه الاجتماعي.

اضطراب الجسدنة

يتم فيها تحويل مصادر التوتر والقلق لصورة أعراض وأمراض جسدية وقد تم شرحها بالتفصيل أعلاه.

مما سبق ذكره نجد أن الاضطراب الجسدي أو الجسدنة هو مرض ينتج عن أسباب نفسية، وأن الصحة النفسية والصحة الجسدية وجهان لعملة واحدة، وينص دستور منظمة الصحة العالمية على أن الصحة هي حالة من السلامة الكاملة جسدياً ونفسياً و اجتماعياً وليست مجرد انعدام المرض، ولكي نستطيع القول عن إنسان أنه يتمتع بصحة جيدة، يجب أن يكون سليماً من الناحية الجسدية و النفسية .