السعادة هي المحطة التي نسعى جميعاً للوصول إليها خلال رحلتنا في هذا العالم، نكافح من أجلها ونبذل كل ما في وسعنا للوصول في أقرب فرصة، قد نتخلى عن وظيفة ما أو ننهي علاقاتنا مع أشخاص معينين أو نغير مجال دراستنا في سبيل البحث عن السعادة وإيجادها.

رغم أن هذا السعي المشترك يجمع البشر منذ القدم، إلا أنه ما من اتفاق موحد على معنى السعادة وكيفية إيجادها، فالبعض يراها في الحصول على المكانة الاجتماعية، أو الاستقرار المادي أو الشهرة أو تحقيق الأهداف، ولكن رغم أن البعض يحقق الكثير من المعايير السائدة للسعادة، لماذا يستمرون بالبحث عنها؟

إذاً ما هي السعادة؟ وهل يمكن إيجادها؟ وهل سعينا المستمر لتحقيقها قد يودي بنا إلى عدم إيجادها بل إلى نقيضها؟ لنتعرف سوية على الأجوبة في هذا المقال.

البحث عن السعادة

مفهوم السعادة عبر التاريخ

لا يخبرنا التاريخ بقصة أول شخص بحث عن السعادة، ولا يوجد تعريف شامل لمفهومها، إذ حاول الفلاسفة وعلماء النفس وحتى خبراء الاقتصاد وضع تعريف للسعادة ولم يتمكنوا من ذلك. لذلك وُضعت عدة نظريات تحاول تفسير مفهومها الواسع وتضمنت التالي:

من وجهة نظر الفلسفة

بالعودة إلى التاريخ، حوالي 3000 عام إلى زمن الإغريق تحديداً، وضع الفيلسوف أرسطو ويُعتبر رائد هذا المجال عدة نظريات تناقش السعادة، إذ اقترح أنها هي رغبة البشرية الواحدة، وأن كل الرغبات البشرية الأخرى وُجدت كوسيلة للحصول على السعادة، كما كان يعتقد أن هناك أربع مستويات من السعادة: السعادة من الإشباع الفوري، والمقارنة والإنجاز، والمساهمة الإيجابية، وتحقيق الإكمال، واقترح أرسطو أن السعادة يمكن تحقيقها من خلال المتوسط ​​الذهبي، والذي يتضمن إيجاد توازن بين النقص والفائض.

من وجهة نظر علم النفس

يعرفها علم النفس على أنها حالة من الرفاه العاطفي التي يختبرها الفرد إما في إطار ضيق، عندما تحدث أشياء جيدة في لحظة معينة، أو على نطاقٍ أوسع، كتقييم الشخص الإيجابي لحياته وإنجازاته بشكل عام، وبالتالي الرفاه الذاتي.

وفقاً لهرم ماسلو

هرو ماسلو للاحتياجات

يشير هرم الاحتياجات أن الأشخاص لديهم الحافز للسعي نحو الاحتياجات الأكثر تعقيداً ما أن يلبوا احتياجاتهم الأساسية. تتربع في قمة هرم ماسلو حاجة تحقيق الذات أو الحاجة لتحقيق إمكانات الشخص الكامنة، وتؤكد النظرية أهمية تجارب الذروة واللحظات الأكثر سمواً، حين يجرب الشخص الإدراك العميق والسعادة والمتعة.

علم النفس الإيجابي

يعد البحث عن السعادة محور علم النفس الإيجابي الذي أُحدث في تسعينيات القرن الماضي، إذ يهتم باحثو هذا الميدان في تعلم طرق ترفع مستوى الإيجابية وتساعد الناس لخوض حياة أكثر سعادة يملؤها الرضا، وبدلاً من التركيز على الاضطرابات النفسية يسعى هذا الميدان لمساعدة الأشخاص والمجتمعات تعزيز مشاعرهم الإيجابية وتحقيق أكبر قدر من السعادة.

البحث عن السعادة لا يخلو من التحديات

“السعيد من لا يفكر بالسعادة” عباس محمود العقاد

للأسف إن رحلة البحث عن السعادة لا تخلو من المطبات، كحال أي شيء نسعى الوصول إليه، إلا أن هذه التحديات قد يكون سببها الأساسي التوقعات المرتفعة التي نرسمها في خيالنا والتصورات الخاطئة التي تشكلت لدينا نتيجة توقنا المستمر وبحثنا للوصول إلى وجهتنا النهائية وهي السعادة.

إليك بعضاً من هذه التحديات الشائعة:

ربما لا نعلم ما هي السعادة وما يجعلنا سعداء

حتى لو لم نكن نعرف ماهية السعادة تماماً أو ما هي السبل الأفضل لإيجادها سنستمر بالبحث عنها رغماً عنا، هل هي إشباع  الرغبات المادية أو إنجاز الأهداف أو في الحصول على راحة البال؟

في استبيان عام 2016، سُئل عدد من الأمريكيين ما إذا كانوا يفضلون اختيار إنجاز أشياء عظيمة في حياتهم أو أن يكونوا سعداء، والنتيجة كانت 81% منهم اختاروا السعادة، مفضلين السعادة على الإنجاز.

تقول المعالجة النفسية Susan J.Buniva

” من الوهم اعتقادنا بأن الأحداث الخارجية أو الظروف مثل الثروة أو الزواج ستخلق السعادة، عندما نبحث عن السعادة خارج أنفسنا، نفقد السيطرة على سعادتنا الخاصة.”

هل نعلم ما هي السعادة حقاً؟

كلما زادت الخيارات كلما قلّت السعادة

مَن كان يظن أن توفر الكثير من الخيارات قد يقلل من شعورنا بالسعادة، خصوصاً في وقتنا الحالي مع تواجد ألاف بل مئات الخيارات المتاحة من البسيطة كشراء هاتف جديد إلى الأوسع كفرص الاستثمار، بحسب موقع Harvad Health Publishing فإن السعادة تعتمد جزئياً على وجود خيارات، ولكن فقط حتى حد معين، كلما زادت الخيارات التي لديك، زادت فرص تأنيب ضميرك بسبب الخيار الذي اتخذته، بالتالي، زيادة نسبة الخيارات الصحيحة التي كان يمكن اتخاذها.

الخلط بين السعادة والمتعة

يخلط الناس بين المتعة والسعادة لأن كلاهما يمنحاننا شعوراً أفضل، بينما السعادة تعتمد بشكل أساسي على نواقل عصبية (الأسيتيل كولين والسيروتونين) مختلفة عن تلك المرتبطة بالمتعة (الدوبامين) ، ولابد من ملاحظة أن السعادة يمكن أن تحدث في غياب الدوبامين.

البحث عن المتعة أصبحت الثقافة السائدة الآن، لذا فقدنا القدرة على التمييز بين المتعة والسعادة، إذ غالباً ما ننتهي بالسعي وراء المتعة معتقدين أننا في طريق الوصول إلى السعادة، لكن هذا الطريق قد أن يكون خطراً، لأن الإدمان يرتكز على المتعة، بينما السعادة لا تحتوي على أي خطر أو تهديدات.

الثمن الذي ندفعه في سبيل  البحث عن السعادة

الثمن الذي ندفعه مقابل الحصول على السعادة

الإصرار على ملاحقة السعادة قد يودي بنا إلى سعادة أقل

في زمن وسائل التواصل الاجتماعي و كتب مساعدة الذات، قد يصيبنا الرهاب من عدم اللحاق بركب الأخرين وألا نكون أول الواصلين للسعادة مما قد يؤثر على صحتنا النفسية، وهذا ما أجمعت عليه نتائج عدة أبحاث وتوصلت إلى أن سعينا للحصول على السعادة قد يؤثر علينا سلباً من خلال:

قد يقودنا للإكتئاب والقلق

مطاردة السعادة كهدف بشكل غير واقعي قد يقود إلى مجموعة من المشاكل النفسية، وبحسب الدكتورة النفسية Jennifer Barbera عندما لا يتمكن الفرد من إشباع بحثه عن السعادة، يمكن أن يزيد انتقاده لذاته، وبالتالي زيادة الاكتئاب والقلق، كما أن مشاعر الخيبة قد تعزز الشعور بالعجز والمزاج المنخفض، والتي تعد سابقات الإكتئاب.

البحث عن السعادة قد ينتهي بالوحدة

التركيز على السعادة وتحقيقها كمكسب شخصي قد ينتج عنه تفكك علاقات الفرد مع محيطه، في بحث تضمن دراستين، أظهرتا أنه كلما رفع الأشخاص من قيمة السعادة كلما ازداد شعورهم بالوحدة ولوحظ تراجع هرمون البروجستيرون في لعابهم، وهي استجابة هرمونية مرتبطة بالوحدة.

الشعور بالخيبة والإحباط

السعادة من ركائز رفاه الذات، ومن المنصف توقع أن التركيز على تحقيقها سيفضي إلى نتائج إيجابية في حياتنا، ولكن هذا عكس ما توصل إليه بحث تضمن دراستين بحثتا في الآثار المتناقضة لتقدير السعادة في حياتنا، والمفارقة كانت أنه كلما سعينا جاهدين لتحقيق السعادة،كلما أصبحت بعيدة المنال وحتى لو كانت في متناول اليد. عندما نجعل السعادة هي المحور الوحيد في حياتنا، فإننا نخلق توقعات غير واقعية ونضع ضغطًا هائلاً على أنفسنا لنشعر دائماً بالسعادة،ما قد يؤدي إلى شعورنا بخيبة الأمل عندما نواجه تحديات الحياة.

هل للسعادة بديل؟

لحسن الحظ، لدى فلاسفة الإغريق الإجابة، بالتحديد أرسطو وأفلاطون، في كلمة واحدة وهي الـ يودايمونيا أو Eudaimonia. كتعريف السعادة لا يوجد ترجمة واحدة تلخص معنى اليودايمونيا، فالبعض يترجمها على أنها السعادة والبعض بديل السعادة والآخرين ازدهار البشرية والرفاه الذاتي، وميزها الفيلسوف المعاصر آلان دو بوتون بأنها الإنجاز، والذي يفرق بين السعادة و الإنجاز هو الألم ومن الممكن جداً ان تحقق الإنجاز و تكون في نفس الوقت تحت الضغط و تعاني من ألام نفسية وجسدية، ومزاجك عكر وهذه الفروق النفسية تصعب على كلمة “السعادة” تحديد تلك المفاهيم لأنه من الصعب أن تكون سعيداً وغير سعيد بنفس اللحظة،رغم معاناتنا تشجعنا اليودايمونيا على الوثوق بأن العديد من مشاريع الحياة القيمة ستكون في نقطة ما غير مرضية ومع ذلك لا تزال تستحق السعي لها.

هل للسعادة بديل؟

وعلى عكس السعادة ، فإن اليودايمونيا ليست عاطفة بل حالة من الوجود، أو بالأحرى، خاصة بالنسبة لأرسطو، حالة من الفعل والإنجاز، فهي أكثر عمقاً من السعادة، وأكثر استقراراً و يمكن الاعتماد عليها، على الرغم من أنها تؤدي إلى المتعة أو الرضا في أسمى صورة، إلا أنها لا تنشأ من المتعة، بل وفقاً لقيم ومبادئ أعلى تتجاوز ما هو موجود الآن.

خطوات صغيرة لتقترب من السعادة بدلاً من البحث عنها

نحن غير مصممين لنكون سعداء دائماً، وقد تخدعنا ثقافتنا الحالية بأن السعادة والمتعة والبهجة هم ما يجب أن نشعر به طالما نحن على قيد الحياة، ولكن في كل يوم هناك تحدٍ ومعاناة جديدة ولابد من اختبار المشاعر والمواقف السلبية لنستمر قدماً، هناك العديد من السلوكيات البسيطة التي تساعدنا في بناء سعادتنا الخاصة بعيداً عن المعايير السائدة التي يمكن ألا تخدمنا، إليك بعضاً منها:

  1. عش وفقاً لقيمك الخاصة ومبادئك ومعاييرك وما يتناسب معك وما يجعلك سعيداً بغض النظر عن ما يجعل الآخرين سعداء.
  2. لا تقارن نفسك بالآخرين وتذكر أن ما تراه من حياتهم هو أفضل اللحظات فقط وربما هم يعانون أكثر من أي شخص آخر في الخفاء.
  3. اهتم بنفسك و بصحتك الجسدية والنفسية واصنع روتيناً خاص بك يوفر لك الراحة والأمان.
  4. صنف احتياجاتك ورغباتك واترك المهم منها وكما ينادي الفليسوف الإغريقي أبيقور يشترط حصر الرغبات بما هو ضروري منها حتى نصل للسعادة.
  5. استمتع باللحظة الحالية وما تقدمه الحياة لنا يومياً من لذات بسيطة كفنجان قهوة ساخن أو سماء صافية تملؤها النجوم، ولا تشغل بالك بالمستقبل.
  6. اشعر بالامتنان والرضا درّب نفسك على تقدير ما تملك الآن من علاقات ومقتنيات، كن ممتناً لأبسط الأشياء والتفاصيل في حياتك فهي جزء مهم من وجودك.
  7. تواصل مع الآخرين وخصص وقتاً للأشخاص المهمين في حياتك واقض وقتاً ممتعاً معهم.
  8. تقبل اللحظات غير السعيدة وأن المواقف والمشاعر السلبية جزء مهم من الحياة أيضاً، وهي ما يحافظ على التوازن في العالم.
  9. استرح وخذ قسطاً كافٍ من النوم فالنوم هو أساس الصحة الجيدة والصحة الجيدة تقينا من الاستسلام أمام الضغوطات اليومية.
  10. لا تلاحق المتعة وتذكر أن السعادة قد تحدث بمعزل عنها، وأن السعادة مرتبطة بالشعور بالأمان والهدوء.

ربما كل ما علينا فعله هو أن نستمتع بالرحلة وألا نكترث كثيراً بالوجهة، وأن نتذكر أنه بإمكاننا دوماً بناء سعادتنا الخاصة وفق ما نؤمن به، في كتابه Obliquity يناقش John Kay أن أفضل الأشياء في الحياة تأتي عندما  نسعى إليها بشكل غير مباشر.

ربما حين نركز على اللحاق بالسعادة ومطارتها سننتهي بإبعادها عنا، إذاً ما رأيك في أن نذهب في رحلة إلى داخلنا وإيجاد ما يسعدنا حقاً ويشعرنا بالرضا؟