السعي إلى الكمال

خلال رحلة حياتنا أو في مرحلة ما منها على الأقل، رغبنا أو فكرنا في أن نكون الأفضل، الأجمل أو الأذكى. كم مرة فكرت في الحصول على أعلى الدرجات في المدرسة أو الجامعة.. أو الظهور بمظهر جيد أو تحقيق أهداف شخصية حتى لو كانت صعبة بالنسبة لك. إن هذه المعايير التي تضعها لنفسك تعطيك حافزاً للوصول إلى أهدافك وتحقيق نجاح كبير، إذاً أين تكمن المشكلة؟  قد تصبح هذه المعايير مشكلة بالنسبة لك إذا كانت غير واقعية، تسعى لها بحثاً عن المثالية وعندما تربط تحقيقها في تقديرك لذاتك أو حصولك على التقدير والاحترام من الآخرين عندها يمكن أن يشكل السعي إلى المثالية هاجساً يعيق حياتك غير أنه قد يسبب لك مشاكل صحية جسدية ونفسية. في هذا المقال سنتعرف على مفهوم السعي إلى الكمال ..سماته.. والإشارات التي تدل على أنك شخصية باحثة عن المثالية.

ما هو مفهوم السعي إلى الكمال؟

هو محاولة الأشخاص جاهدين الوصول إلى أعلى مراحل المثالية في كل شيء يقومون به سواءً في العمل أو في الدراسة أو في حياتهم الشخصية، فهم يحاولون السيطرة على جميع الأمور للحصول على نتائج خالية من العيوب والأخطاء، فأي خطأ عند ناشدي المثالية هو بمثابة مشكلة كبيرة.

السعي إلى الكمال يدفع الأشخاص لوضع معايير عالية حتى لو لم تتوافق مع قدراتهم وشعورهم بالفرح والرضا عن النفس عند تحقيقها والوصول إليها، الأمر الذي ينجم عنه إحباط في الكثير من الأوقات في حال عدم الوصول للنتيجة المرجوة، فالباحثون عن الكمال والمثالية يركزون بشكل كبير على النتيجة ومقارنة نتائجهم بنتائج الآخرين دوماً.

كيف يؤثر السعي إلى الكمال على صحتك الجسدية والنفسية؟

يظن الكثير من الناس أن المثالية هي شيء إيجابي، إلا أن هذه الفكرة ليست صحيحة كلياً. إن السعي الدائم نحو الكمال يؤثر على سلوكك ومشاعرك ويستنزف طاقاتك بالتالي فقدان الرغبة للقيام بأي عمل أو تحقيق أي هدف جديد.

فهو يشكل عامل ضعف يدفع بك إلى دوامة القلق، اضطرابات الأكل والنوم وعدم الاهتمام أو الاستمتاع بأي عمل، إن الكثير من الأشخاص الباحثين عن المثالية يرافقهم انخفاض تقدير الذات والشعور الدائم بالذنب وقد يصل الأمر إلى الاكتئاب.

هوس السعي إلى الكمال وأثر وسائل التواصل الاجتماعي.

السعي إلى الكمال وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي

تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في تعزيز فكرة المثالية حتى لو لم يتم هذا الأمر بصورة مباشرة وواضحة.

هنا حيث يقوم الكثيرون بإظهار الجانب المثالي من حياتهم، شخصياتهم، ومظهرهم الخارجي بالإضافة إلى عرض وإبراز إنجازاتهم وتوثيق لحظاتهم السعيدة بشكل يوحي للمتلقي أنهم يعيشون حياة مثالية خالية من الفشل والصعوبات يبدأ من خلالها بمقارنة نفسه وحياته معهم وربما يسعى للحصول على حياة مماثلة.

يعد هذا الأمر شائعاً بين الشباب وخصوصاً الفتيات، فتشكل منصات التواصل الاجتماعي بيئة مليئة بالمعايير المثالية حول الجمال والتركيز على المظهر الخارجي مما يولد عن البعض شعوراً سلبياً تجاه أجسادهم وحبهم لأنفسهم ويزيد مستويات القلق والتوتر حيال مظهرهم الأمر الذي دفع البعض منهم للجوء إلى العمليات الجراحية التجميلية للوصول إلى المعايير المثالية للجمال حسب اعتقادهم.

ما هي الأسباب التي تدفعك لأن تكون شخصية مثالية؟

ربما لا يوجد سبب معين وواضح بذاته يمكن أن يؤدي إلى نشوء المشكلة عند الأفراد؛ لكن يمكن أن يكون مزيجاً من عدة أسباب معاً، نذكر من هذه الأسباب:

  • الخوف من آراء وأحكام الآخرين:

الخوف من آراء الآخرين من أسباب السعي إلى الكمال والمثالية

الخوف من آراء الناس واعتقادهم أن حصولهم على القبول والاحترام بين الآخرين يعتمد على كونهم أشخاص مثاليين وناجحين؛ غالباً الأشخاص الذين يعيشون طفولة تسودها المقارنات والسيطرة وانعدام الحوار هم أكثر الأشخاص اهتماماً بنظرة المجتمع لهم.

  • مواكبة معايير المجتمع:

خاصة مع تطور المجتمعات وارتفاع المنافسة الأكاديمية والمهنية والثقافية، إلى جانب الانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي والمعايير العالية التي فرضتها وما ينتج عنها من مقارنات مع الآخرين.

  • هوس الوالدين أو أحدهما بالمثالية:

علاقة الوالدين مع الأطفال التي تحكمها قواعد وقوانين صارمة ومثالية بشكل كبير إلى جانب التوقعات العالية التي يحيطون أبناءهم بها تنشئ أطفالاً يسعون إلى الكمال، إن الأطفال الذين يتعرضون لانتقادات وردود أفعال سلبية بشكل متواصل حول سلوكهم وتصرفاتهم، أو تعرضهم للعقاب عند ارتكابهم الأخطاء غالباً ما يدفعهم هذا السلوك إلى مستويات أعلى من المثالية الذاتية ومحاولة تطبيق هذه المثالية على الآخرين.

إشارات تدل على أنك شخصية تسعى إلى الكمال.

  1. لن تقوم بأي عمل إذا لم تكن متأكداً بنسبة 100% من قدرتك على النجاح به وإنهائه بشكل مثالي وبدون أخطاء.
  2. عند قيامك بأي مهمة سوف تأخذ وقتاً أطول من الوقت اللازم لإنهائها بحثاً عن نتيجة كاملة خالية من العيوب. (لكن دعني أخبرك أن القيام بهذا الأمر بشكل متكرر سوف يستنزف وقتك وطاقتك ويصيبك بالإرهاق والملل عند القيام بمهمة جديدة).
  3. الشعور بعدم الرضا بعد الانتهاء من أي عمل، واعتقادك الدائم أنه بإمكانك القيام بعمل أفضل مهما كانت النتيجة جيدة ومرضية بالنسبة لغيرك.
  4. تجنب الاجتماع مع الأصدقاء أو مع الأشخاص الذين تعتقد أنهم أفضل أو أكثر مثالية منك.
  5. تخشى المواقف التي تجعلك تبدو ضعيف أو غير مثالي وتحاول قدر الإمكان عدم الوقوع فيها والابتعاد عنها، غير أنك تصبح متوتراً وعصبياً جداً إذا اضطررت للتعامل مع موقف مشابه كهذا.
  6. مقارنة نتائجك مع نتائج الآخرين، وربما تشعر بالسوء أيضاً إذا وجدت أشخاص قاموا بعمل أفضل منك.
  7. انتقاد الذات والتفكير في كل تصرف أو حدث صغيراً كان أو كبيراً، ولوم النفس على أي خطأ يصدر منك.. الباحثون عن المثالية ينتقدون أنفسهم بصرامة شديدة.
  8. محاولة السيطرة على علاقاتك سواء في حياتك الشخصية أو في العمل.
  9. لا تفضل مساعدة أي شخص لك في عملك،فهو لن يقوم بالعمل كما تقوم به أنت وستحاول القيام به مجدداً ليناسب معاييرك العالية.
  10. لديك توقعات عالية من الجميع ودائماً ما تنتقد تصرفاتهم وتعاني كثيراً في علاقاتك مع الآخرين الذين لا يستوفون معاييرك.

نصائح التقليل من المثالية

والآن إذا كنت تعتقد أنك شخصية باحثة عن المثالية والكمال، لا تقلق سوف نقدم لك بعض النصائح والنقاط التي تساعدك في التقليل من المشكلة:

  • اسمح لنفسك بارتكاب الأخطاء:

يجب عليك التأكد من أن ارتكابك للأخطاء أو فشلك في إحدى المرات ليست نهاية العالم بل على العكس، إن الأخطاء هي فرص للتعلم والنمو وتساعدك في تطوير نفسك بشكل دائم وهي أمر طبيعي لا بد من حدوثه خلال مسيرة حياتك، فدرب نفسك على التعامل مع الأخطاء بدلاً من جعلها حاجزاً يعيق حياتك.

  • تعلم كيف تتعامل مع الانتقادات:

تشغل الانتقادات عند ناشدي الكمال حيزاً كبيراً من تفكيرهم وتؤثر على سلوكياتهم وربما تدفعهم المثالية للقيام بالكثير من الأمور بشكل سري خوفاً من النقد، مع ذلك فإن النقد البناء يمكن أن يكون صحياً ومفيداً ويسلط الضوء على مكان الضعف أو القوة لديك بشكل يتيح لك القيام بعمل أفضل في المرات القادمة.

  • كن لطيفاً مع نفسك:

لا بأس بالاسترخاء أحياناً، والقيام بأشياء تحبها بعيداً عن التوتر والمعايير المدروسة كالبدء بممارسة هواية تحبها مثلاً، أو فكر أن تقوم بعمل يشعرك بالسعادة حتى لو لم يكن مثالياً تماماً؛ استمتع بالرحلة لا تركز على النتيجة.

  • ضع معايير واقعية لنفسك:

لتخفيف الضغط الذي تمارسه على نفسك والتركيز على الأمور الواقعية التي يمكنك تحسينها وبذل قصارى جهدك لتحقيقها وتذكر لا يوجد شيئ كامل في الحياة بنسبة 100%

  • اطلب مساعدة المعالج النفسي:

اطلب مساعة معالج نفسي للتقليل من المثالية والسعي إلى الكمال

مما لا شك فيه أن اعترافك بوجود المشكلة هو أول خطوة لإيجاد الحلول لها لذا لا تحاول إخفاءها حتى لا تتفاقم. لكن إذا وجدت أنك ما زلت تكافح للتخلص من المثالية المفرطة اطلب مساعدة المعالج النفسي، حيث يساعدك العلاج وخاصة العلاج السلوكي المعرفي في فهم الأسباب التي تجعلك تسعى لتكون مثالياً بشكل كبير وإعادة صياغة أفكارك والتأثير في سلوكك لتكون أكثر طبيعية وواقعية ويمنحك العلاج الأدوات المناسبة التغلب على المثالية المفرطة.

في النهاية عزيزي القارئ فإنه ليس من الواقعي أن تكون في الصدارة في كل مجال من مجالات حياتك لذا امنح نفسك قدراً من الراحة والتعاطف مع الذات، اسع لتكون حقيقياً لا مثالياً، ولا تنسى أن السعادة تكمن في الرحلة لا في النتيجة فقط..احذر من الوقوع في فخ المثالية وتذكر لا وجود لإنسان كامل.