من جزيرة يملؤها الباعوض إلى أقوى اقتصادات العالم قصة تحول سنغافورة درس لجميع دول العالم، تجربة فريدة من نوعها تعطيك الأمل، فكيف يمكنك التحول بأي لحظة من دولة متخلفة فقيرة لدولة لديها احد أهم البنى التحتية يقصدها كل سفن و طيارات العالم بل كل سكان العالم !
تاريخ سنغافورة :
تقع جمهورية سنغافورة على جزيرة في جنوب شرق أسيا، عند الطرف الجنوبي من شبه جزيرة ملايو، و يفصلها عن ماليزيا مضيف جوهور و عن اندونسيا مضيق سنغافورة .
كانت سنغافورة مستعمرة بريطانية تابعة لشركة الهند الشرقية، حصلت على استقلالها عام 1963 .
لم يدم استقلالها طويلا حتى اندمجت مع ماليزيا بعد سنتين تماما أي عام 1965، سبب الاندماج كان بحث سنغافورة عن معيل لها بسبب افتقادها لأبسط مقومات الحياة بما فيها انعدام مياه الشرب، لم يدم الأتحاد طويلا حتى قررت ماليزيا الاستغناء عنها و لنفس أسباب الاندماج الأساسية فكانت سنغافورة بالنسبة لماليزيا عبئ على كاهلها تأخذ منها كل شيء حرفياً و لا تقدم أي شيء بالمقابل فهي ليس لديها أي شيء أصلا .
بكاء رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو على الهواء كان أبرز ردود الأفعال حيث قال أنذاك بأن سنغافورة قد هلكت، على مستوى المحلي سادت الكأبة و الأحباط على وجوه الشعب السنغافوري مرافقاً لذلك ارتفع معدل السرقة و الرشاوي و الفساد الاداري بشكل كبير، وصل معدل البطالة وصل الى 86% أي الغالبية العظمى من السنغافوريين بلا عمل و هي كارثة اقتصادية ناهيك عن امتلاء الشوارع بالقمامة و انتشار الأمراض بسببها .
كيف لن يحدث ذلك و سنغافورة بلد شبه منعدم الثروات الباطنية، ممتلئ بالمستنقعات من غير أي بنى تحتية . شعب مشتت و منقسم أنذاك بسبب تعدد القوميات و الأديان به لا يوجد ما يوحدهم، اضافة الى انعدام الثقافة فالفئة المتعلمة من الشعب هي نادرة بوقتها و كانت حكرا ً على الأغنياء فقط . أما القانون فقد كان حبر على ورق .
نهضة سنغافورة المرحلة المفصلية في تحول سنغافورة :
لم يستسلم لي كوان يو لمشاعر الأحباط و اليأس بل أراد أن يكون المنقذ لسنغافورة، بأرادة قوية و عمل جاد بدأت قصة تحول سنغافورة فأول الخطوات التغير كان الأتجاه الى القانون كونه حجر الأساس لبناء مجتمع صحيح و بدأ العمل التجاري، ترجمت حكومة كوان يو هذا الكلام بوضع قوانين داخلية صارمة لنقل الشعب من حالة الفوضى و الفساد الى حالة الأنضباط .
شملت القوانين حياة الفرد السنغافوري بكاملها من أدق تفاصيل حياته الى أكبرها، قد تكون قد سمعت عن بعضها كونها وصفت بالأشد غرابة .
مثلا : ممنوع منعا باتا مضغ العلكة بسنغافورة أو حتى بيعها !
يمنع البصاق على الأرض في أي مكان عام أيضا و تصل غرامة كل واحدة منها الى ألف دولار و اذا تكررت تصل الى حد الضرب !
و السبب بذلك يعود الى العادات الأجتماعية السيئة الموجود و انعدام الثقافة، بالتالي تحتم وضع قانون صارم و رادع لأي شخص يحاول خرقه . هذه القوانين و الأجراءات هي التي هيئت لاحقا المناخ الاستثماري للبلاد و شجعت المستثمرين على الدخول الى أسواقها.
حسنا قامت سنغافورة بوضع قوانين صارمة و طبقتها و لكن هذا غير كافي بالطبع فما الخطوة التالية ؟
فهمت الحكومة السنغافورية وضعها تماما فعرفت نقاط ضعفها و لكن ما نقاط قوتها ؟ موقعها الجغرافي جيد كونها جزيرة مطلة على البحر و على مضيق بحري و قريبة من دول ذات نشاط اقتصادي جيد و لكن ما الذي سيجعلها مقصد لهذه الدول فليس لديها أي قيمة تضيفها .
هذا ما عملت عليه سنغافورة فقد قررت خلق قيمة خاصة لها و كان الحل الأمثل عن طريق انشاء ميناء ضخم و مطار بجانبه، فكرة رائعة جدا و لكن مثل هذا المشروع يتطلب الكثير من الأموال ، المعدات ، الشركات و الخبرات التي شبه معدومة بسنغافورة فما الحل ؟
الحل كان بتبني سنغافورة لسياسة اقتصادية مفتوحة أي تقديم كافة التسهيلات لأي شركة دولية بمختلف جنسيتها و الأنفتاح بشكل كلي على العالم و إلغاء أي قيود تخص التبادلات التجارية بالتالي أصبحت سنغافورة مقصد لعديد من شركات العالم التي أصبحت ترا في سنغافورة حريتها من حيث التشريعات و القوانين التجارية و الضرائب .
على الرغم من انعدام الموارد الطبيعية لهذا البلد لكن لي كوان يو ( رئيس مجلس الوزراء سنغافورة بوقتها ) كان لديه رؤية خاصة به فقرر الاستثمار بأهم مورد من الموارد الموجودة على الأرض , المورد البشري أي العقل البشري أليس هو من يخلق القيم و يستفيد من الموارد الأخرى، على هذا التفكير أعطى كوان يو أهمية كبرى للمدارس و الجامعات و فرض التعليم على جميع السكان بلا استثناء و وضع نظام رقابة على التعليم ، فبحسب وجهة نظره فإن الشعب السنغافوري هو مستقبل البلاد و الأمل لتحقيق أي تقدم .
فهل سينجح لي كوان يو في مهمته و هل ستتحقق رؤيته ؟ نترك لك الحكم من خلال الفقرة التالي.
النتائج النهائية لعملية تحول سنغافورة :
بعد سنوات طويلة من الإصرار و العمل الدؤوب تمكنت سنغافورة من بناء ميناء تم تصنيفه كثاني أفضل ميناء عالميا ! وهي أول إنجاز بقصة تحول سنغافورة،حيث زود الميناء ببنية تحتية متقدمة جدا، بأفضل أنواع معدات تداول البضائع من الروافع و أوناش و ساحات تخزين كبيرة تستوعب جميع أنواع البضائع .
تعاقد ميناء سنغافورة مع 600 خط ملاحي حول العالم أي أصبحت جميع سفن نقل البضائع تأتي بشكل دوري الى الميناء لشحن و تفريغ البضائع و يستقبل سنويا 37.2 مليون حاوية مكافئة, و المدهش بالموضوع أنك إذا اردت شراء بضائع من بلد ما ونقلها إليك فالأفضل أن تشحنها عبر سفينة تمر بميناء سنغافورة أولا ثم الى الميناء الوصول النهائي, لأنها ستصل أسرع إليك فإن مدة وصول
البضائع الت تمر عبر ميناء سنغافورة يعد أسرع بكثير من ارسال البضائع اليك مباشرة من بلد المصدر و ذلك بسبب غزارة الرحلات من جميع دول العالم الى ميناء سنغافورة يوميا .
لم تكتفي سنغافورة بميناء البحري بل بنت مطاراً بالقرب من الميناء لدعم عمليات التجارة من شحن و تفريغ، يعد مطار شانجي أحد أجمل المطارات عالميا حيث مدموج جمال الطبيعة بأحدث التكنولوجيا، و في إطار عمليات التوسع التجاري أبرمت هيئة المطار اتفاقية للخدمات الجوية مع 130 دولة، هذه الاتفاقيات هدفها الأساسي تسهيل حركة التجارة العالمية و ربط المطار بالميناء الملاصق له، حيث يخدم 6800 رحلة جوية أسبوعيا الى 330 مدينة .
كل ما سبق جعل من سنغافورة أفضل مركز خدمات لوجستية متكاملة من حيث الأداء في المنطقة .
من سوق النقط أيضا كان لسنغافورة نصيب حيث أصبحت 3 أكبر مركز لتكرير النفظ عالمياً حيث يأتيها النفط من مختلف دول العالم لتكريره، لاحقا وسعت قدراتها و أتجهت للتجارة بالنفط المكرر لديها و احتلت المركز الثالث عالميا لتجارة النفظ بعد نيويورك و لندن.
أهم نتائج نهضة سنغافورة على صعيدها المحلي :
- انخفض معدل البطالة بسنغافورة الى 3% فقط بعد أن وصل الى 86% قبل النهضة .
- كان الناتج المحلي الاجمالي لسنغافورة 7 مليارات دولار بعام 1960.
- أما الأن أصبح الناتج المحلي الاجمالي 330 مليار دولار لعام 2016 .
- ارتفع دخل الفرد الى 80000 دولار سنويا لعام 2016 بعد أن كان نصيب الفرد 485 دولار لعام 1960 .
أصبح 80% من سكان سنغافورة يسكنون في أبراج سكنية حديثة و منظمة بعدما كانوا يسكون في بيوت عشوائية صغيرة مملوءة بالطين و الوحل، وصلت أطراف البلاد ببعضا بشبكة طرق عريضة كثيفة بالأنفاق و الجسور، و مخدمة بوسائل النقل المختلفة .
صنف جواز السفر السنغافوري ثاني أفضل جواز سفر عالمياً، فالتسهيلات التي قدمتها سنغافورة لمختلف الشركات العالمية و بفضل المواقف المحايدة التي اتخذتها و نأي نفسها عن المنازعات السياسة, و عملها على بناء علاقات طيبة مع دول العالم قابتلها تسهيلات من جانب الدول الأخرى.
نظرة سنغافورة للمستقبل :
على صعيد الميناء تسعى سنغافورة لزيادة سعة الميناء البحري و جعله يستقبل 65 مليون حاوية مكافئة سنويا ,ذلك بالتوازي مع تحسينات و تطويرات بالميناء من معدات و أنظمة، صرحت سلطات الميناء السنغافوري أنه بحلول عام 2030 سيكون لديها أليات اتوماتيكية بالكاملة دون سائق لنقل الحاويات لمختلف أقسام المرفأ .
مجموعة الأنظمة التي سيزود بها الميناء فهي أنظمة لمراقبة حركة السفن و تنظيمها منعاً من حدوث تكدس سفن على أرصفة الميناء، أيضا اضافة الى مجموعة آلات لرصد مخالفات الشحن و التعبئة .
عندما تتحقق كل هذه الطموحات ستصبح سنغافورة بمرفئها و مطارها أفضل منشأة لوجستية متكاملة عالمياً .
قصة تحول سنغافورة و عزمها المستمر على التطور هي حالة تدرس بمختلف الجامعات حول العالم فالنهضة الاقتصادية التي حققها لي كوان يو أطلق عليها أقتصاد النمر، و على الرغم من عظمة النهضة التي حققها لي كوان يو إلا أن أخذ عليه سلبية في الحكم,حيث وصفه العديد من الأوساط السياسية بالدكتاتوري و ذلك بسبب بقائه بالحكم لمدة 30 سنة متواصلة و ثم تسليم السلطة لولده قبل وفاته .
رغم ذلك حظي لي كوان يو بشعبية كبيرة بين السنغافورين و لقب بالمعلم الأكبر و نسب الشعب السنغافوري الفضل لعيشهم هذه الحياة الكريم اليه .
التعليقات 0
اضف تعليق