أعترفُ أنني أحياناً أقفزُ هلعاً اذا سكبت الملح، أتحدثُ لأطفالي عن جمالِ القطط السوداء عامدة. لايمكنُ لأحد معرفة صفاتي من تاريخ ميلادي، وبذور اللوز ليست دواء للسرطان، وبالتأكيد أبو الهول لم يأخذ قيلولةً صغيرة في ذاك اليوم المزعوم. اذاً ما هي أسباب انتشار الخرافات؟ وبأي استحقاقٍ تكتسبُ جمهورها؟
التعريف بالخرافة وأهم أنواعها:
بدايةً وقبل الدخول في أسباب انتشار الخرافات، علينا توضيح مفهوم الخرافة والفرق بينها وبين الأسطورة، ثمّ المرور على أبرز أنواع الخرافات.
الخرافة كفهوم عام:
الخرافة هي مجموعة من الأفكار والسلوكيّات، لا ترتكز على دليل علمي، ولايدعمها تبرير عقلي، ورغم ذلك لها جمهورها واستمراريتها في المجتمع، هذه الأفكار يجب أن يعتنقها عدد من الأفراد لتصلَ إلى مستوى الخرافة.
انتشار الخرافات لا يكون مؤقتاً ولا محدوداً، والا كانت مجرد اعتقاد خاطئ شخصي.ليست مجرد سلعة قديمة يتم توارثها، فالخرافة تخضع لإعادة تدوير وصيحات جديدة من الموضة.
الفرق بين الخرافة والأسطورة:
الإنسان القديم حاول تفسير العالم من حوله بناءاً على حواسه وخياله، أوجد في مخيلته تفسيراتٍ للأحداث حوله، محاولاً كسر الخوف والتوتر في عالمه الموحش،وبناءاً على علمه القاصر وجدت الأسطورة.
الأسطورة حكاية قديمة فيها عناصر خارقة للطبيعة، لها عناصر القصة من أبطال وزمان ومكان. أما الخرافة فهي مجرد إيمان بفكرة،ينتج عن تطبيقها نتائج محددة. طبعاً دون وجود دليل يؤكد صحة أي منهما سوى التداول.
الأسطورة اشتملت على أبطال خارقيين، وأوضحت خوف الإنسان القديم من الحيوانات، فأسكبت عليهم صفات خارقة، ومزجت في أجسادهم بين الصفات الخلقية الإنسانية والحيوانية.
أنواع الخرافات وتصنيفها:
أسباب انتشار الخرافات تختلف باختلاف أنواعها،للخرافات نوعين رئيسين مختلفيّ الأصول، يتداخلان في نقاطٍ كثيرة وهما الخرافات العلميّة والخرافات الشّعبية.
الخرافات العلمية:
لا توجد علاقةٌ شائكة كعلاقة الخرافات بالعلم، يفترض المنطق أنهما ضدّان لا اجتماع لهما، ولكن الحقيقة أنهما قد يسكنا سوياً في ذات العقل.
الجهلُ قد يبدوسبب بديهي من أسباب انتشار الخرافات، لكن في الواقع التفكير الخرافي لا يقتصر على الناس التي لم تنل حظاً وافراً من التعليم، ولا ينسجم مع المجتمعات الفقيرة، وحتى الدّول ذات التطور العلمي العالي تحيا في كنف هذه الظاهرة.
كما لو أنه نزعة ممزوجة بعقلية الإنسان، قد يتواجد في ذات الدماغ التفكير العلمي والتفكير الخرافي. وإلا لماذا رفض الراحل “ستيف جوبز” _الرئيس التنفيذي لأكبر شركة تقنية في العالم “آبل”_ استئصال ورمٍ في بنكرياسه، وتجاهل توصيات الأطباء والبروتوكلات المتبعة، وأختار أن يكون علاجه حميّات غذائية قائمة على العصائر والأعشاب!!
ناطحات السحاب في هونغ كونغ تحوي في مداخلها الرئيسية مزارت، هذه المزارات مهمتها طرد الأشباح والأرواح الشريرة، يرتفع التطور العمراني ويتساقط في مداخله التعقل.
الخرافات الشعبية موروث “كان يا مكان”:
إرث الأجداد للأبناء، تأتي من صلب المجتمع والبيئة، ويعدّ التراث الاجتماعي سبباً من أسباب انتشار الخرافات الشعبية. تختلف من بلد إلى آخر، بين الجنّ في الشرق والأشباح في الغرب، بل وقد تتناقض مضموناً بين الدول المختلفة.
مثلاً يتجنب الصينيون ذكر الرقم الأربعة ويقفزون فوقه، لتشابه لفظ هذا الرقم في لغتهم مع كلمة الموت. بينما يتهم الإيطاليون الرقم ١٧ بجلب سوء الحظ، لأنه يكتب بالرومانية بأحرف اذا أعدت ترتيبها، حصلت على كلمة معناها “حياتي انتهت”.
حتى الشّعور بالحكة أوجدت له الشعوب تفسيرات خرافية، بين قبض المال اذا شعرت بها في يدك، والحلول ضيفاً إذا أصابتك في الأنف.في إسبانيا عليك أن تأكل اثني عشر حبة من العنب في رأس السنة، لتضمن لنفسك الخير في جميع شهور السنة.
أبرز أسباب انتشار الخرافات:
كالألعاب النارية تبدو الخرافات براقة وجذابة، لها جاذبية خاطفة وكأنها الأصل في الإنسان، يرتبط انتشارها بتفسيراتٍ نفسية واجتماعية.
أسباب انتشار الخرافات التفسيرات النفسية:
سبر علماء علميّ النفس والاجتماع أغوار النفس البشرية، باحثين عن تفسيرات لتقبل الذات الإنسانية للخرافة، وميلها للموافقة على التفكير الخرافي واعتماده كنمط حياة. وقد ركز الباحثون على المدخلات التالية واعتمدوها كأسباب منطقية لشيوع الخرافات:
الميل الفطري للحلول السّهلة:
تتوقُ نفوس البشر للعصا السحريّة، تحركها ذات يمينٍ وذات يسار وينقلب الحال. العمل يحتاج طاقةً وعزيمة، ومن الآثار الجانبية للعقلانية رؤية الواقع على حقيقته.
يتعاطى البشر مخدراً ناعماً من الخرافات، يشعرهم بالرّضا عن تقاعسهم، وكأي مخدرٍ يحترم نفسه تتحول الجرعات الصغيرة إلى إدمان، فيبحثون عن المزيد التفسيرات المريحة، وينغمسون في المزيد من الممارسات المنافية للتعقل.
تقول القاعدة العامة “الحلول السهلة غالباً حلول خاطئة”، نوى التمر في محفظتك لن توسع رزقك،بل كدّك وتعبك وسعيك. والطفل لن يتصف بالعناد، بسبب تعاد المشتري مع زحل، بل بسبب أخطاء تربوية يمارسها أبويّه.
لكن سيبقى من الأسهل أن نؤمن بنوى التمر والأبراج والتمائم الزرقاء، لأن الحلول الأخرى تحتاج خطوات حقيقية، تنطلب وقتاً وجهداً وتنويراً. الحلول السهلة ليست حلاً لمشكلة، بل أنهار من التفسيرات تصب في أسباب انتشار الخرافات.
الانحياز التأكيدي والبحث عن التوافق:
خلال سنين حياتي الماضية لم أرَ من يغير رأيه لأنه سمع رأياً أفضل، لم أصادف محاوراً يعتذر من خصمه ويعترف بهزيمته ضمن النقاش. ولو أنك سردت على أحدهم آلاف الأفكار والنظريات، لما سمع منها إلا ما يوافق معتقداته.
عندما يمتلك الإنسان رأياً في موضوعٍ ما، فإن بحثه في جوانب ذلك الموضوع سيكون مقتصراً على تأكيداتٍ لرأيه، وسيتجاوز أي أدلة تخالفه، وهذا ما يعرف ب“الانحياز التأكيدي”
تخضع الخرافات لذات الانحياز التأكيدي، ويميلُ جمهورها إلى تسليط الضوء على أي شكل من أشكال التوافق، سواء كان من خلال وسائل الإعلام أو تلاقي خرافي مع شعبٍ آخر أكثر حداثة.
خلال جائحة كورونا والجدل الحاصل حول اللقاح، أدعت مغنية راب شهيرة أن اللقاح يسبب العجز الجنسي ،استشهد رافضوا اللقاح بها، رغم أنها لا تمتلك أي دليل أو مؤهل يدعم قولها، بالمقابل لو كان تكلمت بأي موضوعّ آخر لما أقاموا لرأيها وزناً، لكنها ضرورات الانحياز التأكيدي.
أسباب انتشار الخرافات التفسيرات الاجتماعية:
الإنسان ابن بيئته ومجتمعه، يبلغه من المجتمع طبائع معينة لا تفسير لها، ويتطبع بها بحكم الوجدان الجمعي لجماعته.
العادات والتقاليد حليف الخرافات الأكبر:
الأعراف الاجتماعية لأي حيز سكاني لم تأتِ من فراغ، لها جذورها في عمق نشوء المجتمع وتطوره. تغيب التجربة ويبقى أسلوب التعامل معها صامداً، ويترجم بما يعرف بالعادات والتقاليد.
تحظى الخرافات بمباركة التقاليد المجتمعية، كعادة الذبح عند شراء بيت جديد أو سيارة السائدة في المجتمعات العربية، تهدف لدفع العين والبلاء. تعتبر تجسيداً لخرافة قديمة، تقول أن لا طهور من الشياطين إلا بإراقة الدماء.
قد لا تكون أسباب انتشار الخرافات واضحة وجليّة، وقد يبدو الأمر كمجرد تقليد لا ضرر منه، فتسأل نفسك لماذا مخالفة الجماعة والتعرض للنبذ؟
مبدأ عدم وجود إثبات علمي أو عقلي يكفي، الخلل الفكري والبعد عن المنطق السليم ليس مزحة، تتأثر به جميع قرارتك الحياتية،فجميع التنازلات تبدأ صغيرة ثمّ تكبر.
نظرية المؤامرة وحالة فقدان الثقة:
الفجوة الكبيرة بين الشّعوب وحكامها، الكتب والأفلام التي تتحدث عن منظمات سرّية تحكم العالم، وسائل الإعلام المروجة لفكرة أن كل ما يحدث حولنا خدعة، هذه العوامل جميعها عززت نظرية المؤامرة، وكانت سبباً من أسباب انتشار الخرافات حول العالم.
ولقد ساهمت “نظرية المؤامرة الكبرى للأدوية” في عودة الخرافات الطبية الشعبية، تدعي هذا النظرية أن المجتمع الطبي وخاصة شركات الأدوية يعمل لأغراض شريرة. الأدوية مصممة لإحداث طفرات والتحكم بالجينات البشرية، بينما البدائل الطبيعية يتم التعتيم عليها عمداً.
سطعت خرافات الطب البديل وكأنها نجمة الحفل، وعادت الأعشاب لعلاج أقوى وأعتى الأمراض. الأخبار ممتلئة بقصصٍ غريبة عن أشخاص رفضوا إجراء منقذ للحياة كغسل الكلية، واستبدلوه بخلطاتٍ غريبة من عند العطاريين.
الأوضاع المعيشية السيئة والانعكاسات اليائسة:
تتأجج نيران الخرافات في الحروب والكوارث والركود الاقتصادي، اليأس قد يكون سبباً من أسباب انتشار الخرافات، عندما يكون المنطقُ مخيباً للأمل.
كنا قد تحدثنا عن العصا السحرية والحلول السهلة، إن الأوضاع الاقتصادية المترديّة تفرض على الإنسان البحث عن ملاذٍ آمن، يجعل واقعه القاسي قابلاً للتعايش، ويخفف من وطأة المسؤولية على أكتافه.
يبحث الناس عن شعاعٍ ما ولو في بقايا فنجان القهوة، ويعود السحر والشعوذة إلى الواجهة، حتى نجدّ من لا يملك قوت يومه، يبدد قروشه على التمائم والتعويذات الغريبة.
وقفة في مواجهة الخرافات:
ختاماً وبعد أن دخلنا في مناجم الخرافات، وخرجنا محملين منها بالأسباب والتفسيرات.نجدّ أن محاربة هذه الأسباب على تنوعها لاتكون إلا بتغذية العقل، وبناء هيكل منطقي من الأفكار والوقائع. وأن كانت الخرافة جذابة فإن التعقل أكثر جاذبية للشعوب الواعية، عندها ربما قد يزأر أبو الهول في وجه خرافاتنا بعد أن يفتح عينيّه.
التعليقات 0
اضف تعليق