توالت أحداثٌ كثيرة على عصرنا، وباء Covid-19، حروب، أزمات اقتصادية، أخبار سيئة نراها ونسمعها في كل مكان، ومن المؤكد أنّ تلكَ الأحداث لم تمر بسلام على أبناءِ هذا الجيل فقد أتتْ تحمل بين طياتها شبح الاكتئاب ليفتك بأُناسٍ عانوا ما عانوه من تلك الأحداث، فعندما تتصفح الدراسات تجد أنّ منظمة الصحة العالمية WHO قامت بإحصائية عام 2020 ووجدت أنّ  264 مليون إنسان حول العالم كانوا بحاجة للعلاج من مرض الاكتئاب!

كما أنّ الجمعية الأمريكية لعلم الانتحار أظهرت في احصائية عام 2009 أنّ ثلثا المنتحرين كانوا يعانون من الاكتئاب قبل انتحارهم, وهناك عوامل كثيرة تؤثر على معدل انتشار الاكتئاب منها العمر فمثلاً الفئات التي أعمارها بين 18-29 ينتشر بينها الاكتئاب بشكل أكبر من الفئات العمرية الأكبر من 60 عاماً, كما أنّ للجنس دور كبير في انتشار الاكتئاب فالإناث أكثر عرضة للاكتئاب من الذكور.

صور توضح مايشعر به مريض الاكتئاب

 هل كل ضيق وحزن هو حالة اكتئاب؟

بالتأكيد لا، الاكتئاب مرضٌ يصيب الذهن والجسد معاً فتظهر على المريض أعراض جسدية ونفسية وتتنوع أعراض الإكتئاب, فقد تكون جليّة عند أشخاص وخفيّة عند آخرين، وقد تغيب الأعراض ويصبح السلوك غريب بعض الشيء.
يتميز الاكتئاب بشعور عميق في الحزن، انعدام الأمل، و انعدام الرغبة في ممارسة الأعمال الاعتيادية (كالدراسة، والعمل, والنزهات..)، ولايخفى على أحد أنّ مريض الاكتئاب يشعر باليأس، وانعدام القيمة و الطاقة.

صور توضح ما يشعر به مريض الاكتئاب
بماذا يشعر مريض الاكتئاب؟

أولاً: التغيرات العاطفية عند مريض الاكتئاب:

  • تعكّر المزاج
  • قلق
  • توتر
  • نظرة تشاؤمية
  • جلد الذات والشعور بعدم بأنه عديم القيمة Worthless

ثانياً التغيرات الجسدية عند مريض الاكتئاب:

  • اضطرابات في النوم
  • صداع وتسارع قلب
  • تعب
  • زيادة وزن أو انخفاضه
  • اضطرابات في الشهية
  • فقدان الاهتمام بالعلاقة الجنسية

ثالثاً التغيرات الذهنية عند مريض الاكتئاب:

  • فقدان الذاكرة القريبة
  • عدم القدرة على اتخاذ القرارات
  • وأعراض ذهانية مثل (هلوسات سمعية، أفكار غير سوية أو انتحارية)

علاج الاكتئاب
أسباب الاكتئاب:

للاكتئاب أسباب عديدة نذكر منها:

  • الأمراض المزمنة مثل: باركنسون، الذهان، السرطانات وغيرها.
  • تناول أدوية معينة مثل: موانع الحمل، الإيزوترينتوئين, إنتروفيرون, بنزوديازبينات.
  • الاضطرابات الهرمونية: مثل قصور الغدة الدرقية
  • مواقف وتراكمات حصلت مع المريض في الماضي ولم يتم التعامل معها.

 أنواع الاكتئاب:

-الاكتئاب الشديد Major Depression Disorder (MDD):

تستمر الأعراض لأكثر من أسبوعين وتؤثر على النشاطات اليومية.

– الاكتئاب المستمر Persistent Depressive Disorder

يُطلق هذا المصطلح لوصف حالتين شائعتين هما اضطراب المزاج Dysthymia والاكتئاب المزمن Chronic major depression, هذا النوع  يستمر لأكثر من سنتين ولا يتم تشخصيه على أنه MDD لأنه لا يحقق شروطه من حيث شدة الأعراض والمدة الزمنية.

– الاضطراب ثنائي القطب Bipolar Depression

يعاني المصابون بهذا النوع من نوبات مزاجية تتراوح بين حالة تدعى Mania (طاقة نشاط عالية، ثقة عالية، يتكلم بسرعة وبحماس) وحالة مزاجية سيئة Depressed mode يكون فيها المريض على عكس ما ذُكر، أي أنّ أكثر ما يميز هذا النوع هو التأرجحات العنيفة في العاطفة والمزاج.

– الاكتئاب الموسمي Seasonal Affective Disorder (SAD)

يحدث في فترة معينة من السنة (فصل الشتاء مثلاً), تساعد مضادات الاكتئاب في علاج هذا النوع, لكن العلاج الضوئي أعطى نتائج أفضل ويتم عن طريق تعرُّض المريض للضوء لفترة 15 ل30 دقيقة كل يوم.

– الاكتئاب الذهاني  Psychotic Depression

يعاني المصابون بهذا النوع من:

  1. هلوسات سمعية وبصرية
  2. أوهام ومعتقدات خاطئة
  3. ويعتقد المصابون أن هناك أحداً ما يريد إلحاق الأذى بهم.

– اكتئاب ما بعد الولادة Postpartum Depression

يُعزى اكتئاب مابعد الولادة إلى الانخفاض الكبير في هرموني الإستروجين والبروجسترون, كذلك الانخفاض في الهرمونات التي تفُرز من قبل الغدة الدرقية يجعل المرآة تشعر بالخمول والتعب والاكتئاب.

– اضطراب ما قبل الطمث الاكتئابي Premenstrual Dysphoric Disorder (PMDD)

يتعرض عدد من النساء لتقلبات مزاجيّة قبل كل دورة طمثية, وذلك يعود للتغيرات الهرمونية التي تحصل في تلك الفترة, إضافةً إلى التغيرات الكيميائية الحاصلة في الدماغ فقد يحصل تبدلات في مستويات السيروتونين, وعدم وجود مستويات كافية منه يساهم في ظهور الاكتئاب.

– الاكتئاب التفاعلي أو الظرفي Situational Depression

هذا النوع مرتبط بحدث معين مثل فقدان وظيفة ما أو فقدان عزيز.

صورة توضح الخلية العصبية ومنطقة المشبك العصبي

تفسير حدوث الاكتئاب من خلال نظرية الأمينات البيولوجية:

يُعزى مرض الاكتئاب إلى خلل في النقل العصبي للنواقل العصبية (والتي تدعى أيضاً الأمينات البيولوجية) الموجودة في الدماغ ومن أهمها: سيروتونين، دوبامين، النورابينفرين ينتج عن هذا الخلل نقص في مستوياتهم الطبيعية.
ومن هذا التفسير جاءت فكرة المعالجة, فما علينا إلا أن نزيد مستويات هذه النواقل في الدماغ لكي نحصل على التأثير المطلوب وذلك عن طريق:

• إطالة عمر هذه الأمينات في جسم المريض

باستخدام مثبطات أنزيم يدعى الأكسيداز أحادي الأمين MAO وهو الأنزيم المسؤول عن تدرك السيروتونين والدوبامين والنور إبينفرين فعند تثبيطه تبقى مستوياتهم ضمن الحدود الطبيعية.

صور توضح المشبك العصبي

• تثبيط إعادة التقاط النواقل العصبية من قبل الخلية العصبية المُفرزة:

تقوم الخلايا العصبية بالتواصل فيما بينها من خلال منطقة تسمى المشبك العصبي وهي منطقة الاتصال بين خليتين عصبيتين وتتألف هذه المنطقة من المحوار الموجود في نهاية الخلية العصبية المُرسلة والتغضنات الموجودة في بداية الخلية العصبية المُستقبلة يلتقيان في هذه المنطقة ويتم التواصل بينهما عن طريق النواقل العصبية.
عادةً تقوم الخلية العصبية بإفراز النواقل العصبية في منطقة المشبك العصبي ويُعاد التقاطها من قبل الخلية نفسها، فعند تثبيط عملية إعادة الالتقاط تزداد مستويات الناقل العصبي في منطقة المشبك العصبي وهذا ما تقوم به المجموعات الدوائية التالية:

1- مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية SSRI:

تقوم هذه الزمرة الدوائية بتثبيط إعادة إلتقاط السيروتونين  من قبل الخلية العصبية التي قامت بإفرازه, وبذلك تزداد مستوياته في منطقة المشبك العصبي.

2- مثبطات استرداد السيروتونين والنورإبينفرين SNRI:

لهذه المجموعة فعل مشابه للمجموعة السابقة إلا أنها تقوم بتثبيط إعادة إلتقاط السيروتونين والنورإبينفرين معاً.

3- مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة TCA:

تعمل هذه الزمرة بنفس آلية SNRI إلا أن آثارها الجانبية المزعجة حالت دون استخدامها كخط علاجي أول, وعلى ذكر الآثار الجانبية لابد أن يعرف المريض أن الآثار الجانبية لا تظهر عند جميع المرضى ولا تكون بنفس الشدة , واليوم الأكثر استخداماً من مضادات الاكتئاب مجموعتي SSRI وSNRI كونها الأقل آثاراً جانبية.

 

تشخيص الاكتئاب من قبل الطبيب
تشخيص الاكتئاب (كيف أعرف أني مصاب بالاكتئاب)

يستخدم الأطباء تصنيف DSM- 5 “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية الطبعة الخامسة” حيث يتم تشخيص الاكتئاب الشديد Major Depression Disorder (MDD) عن طريق معادلة 1 + 4 والتي تعني وجود عرض أساسي وهو فقدان المتعة والتلذذ في النشاطات اليومية anhedonia + وجود 4 من الأعراض التي سبق ذكرها.
ولابد من استمرار الأعراض لمدة أسبوعين على الأقل وأن يكون لها تأثير  ملحوظ على الوظائف اليومية الاعتيادية حتى نقول أننا أمام حالة اكتئاب.

هناك اختبار ذاتي يدعى  The Patient Health Questionnaire PHQ-9 يمكنك القيام به من هنا

علاج الاكتئاب

 كيف يتم علاج الاكتئاب:

تتضمن معالجة الاكتئاب نوعين من العلاج:

أولاً علاج الاكتئاب الدوائي:

المجموعات العلاجية المستخدمة في علاج الاكتئاب:
1- مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية SSRI
2- مثبطات استرداد السيروتونين والنور إبينفرين SNRI
3- مثبطات أنزيم الأوكسيداز أحادي الأمين MAOIs
4- مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة TCA

علاج الاكتئاب عن طريق العلاج المعرفي السلوكي

ثانياً: علاج الاكتئاب اللادوائي:

من أشهر العلاجات اللادوائية المستخدمة هي العلاج المعرفي السلوكي Cognitive behavioral therapy (CBT).
يقوم العلاج المعرفي السلوكي على مبدأ (ما تفكر فيه يؤثر على مشاعرك وينعكس على سلوكك), فكثيراً ما يكون هناك تشوهات في طريقة التفكير تساهم في تفاقم مرض الاكتئاب، ومن هنا تأتي أهمية العلاج النفسي اللادوائي فالمعالج النفسي يُجري مع المريض نقاشاً منطقياً حول هذه الأفكار والسلوكيات، ويجعله يحاكمها ويتخلص منها.

أخطاء التفكير الشائعة التي تؤثر على مريض الاكتئاب:

1- الفلترة:

فلترة الأحداث الإيجابية والتركيز على الأحداث السلبية أو بتعبيرٍ أدق تضخيم السلبيات والتقليل من قيمة الإيجابيات, كأن تُركز على المواقف التي تعرضت فيها للفشل مع أنّك لو تمعنت قليلاً في رحلة حياتك تجد أنّك قد حققت نجاحات وإنجازات كثيرة لم تُلقي لها بالاً.
وكثيراً ما نجد أشخاص تتجاهل الصحة والمال والطعام والشراب والجمال وغيرها من النعم العظيمة وتُركّز على عدم امتلاكها سيارة فارهة مثلاً!.

2- الإفراط في التعميم

كأن تكون معتقد دائماً أن بعد اللحظات السعيدة ستأتي المنّغصات, وبعد كل لحظة فرح سيأتي خبر مُحزن, ولك أن تتخيل الحالة النفسية لمن ترّسخ في ذهنه هذا المعتقد!

3- التهويل Catastrophizing

سمعتُ كثيراً عن قصص عديدة فحواها أنّ أم صدر من طفلها تصرُف غير مناسب فاعتقدت أنها فشلت في التربية وأنها أم سيئة لا تصلح لأن تكون ربة منزل ولا أن تربي طفلاً, وأنّ مثل هذا الموقف لا يصدر من ابنها وأنّ الابن سيكبُر ويصبح شخص سيئ, ولا ينتهي الأمر هنا بل إنّ هذا المشهد يُفجر في ذاكرتها كل موقف تعرضت فيه للفشل، مع أنّ الموقف لا يتعدى كونه طفلٌ صغير أخطأ وعليها أن توبخه لتصحيح الخطأ.

وهنا تكمن أهمية العلاج اللادوائي في تدبير الإكتئاب, فالمعالج النفسي الماهر يساعد المريض على التخلص من هذه الأفكار ومحاولة وضع أفكار أخرى أكثر إيجابية وواقعية مكانها وبالتالي تهدأ مشاعر المريض ويتقوّم السلوك.


المعتقدات الأساسية Core Beliefs ودورها في تفاقم مرض الاكتئاب:

يمكن تعريفها بأنها نظرتك لنفسك وللآخرين ولمستقبلك، فعلى سبيل المثال معتقدك حول الأفعى أنها مخيفة فحين يقول لك أحدهم تحت قدمك أفعى (هذه فكرة) ينتج عنها شعور الفزع ويتبعها سلوك الهروب.
تفاعل هذه المعتقدات مع الآخرين ينتج عنها ردات فعل, وعندما ترى ردة الفعل تتكون في رأسك أفكار والأفكار ينتج عنها مشاعر والمشاعر ينتج عنها سلوكيات فإذا كانت المعتقدات غير سليمة سينتج عنها أفكار غير سليمة وسلوكيات غير سليمة وردة فعل الآخرين على هذه السلوكيات ستكون حتماً غير مرغوبة وبالتالي ستتعزز هذه المعتقدات ونكون قد دخلنا بحلقة مُفرغة، لنأخذ مثال يوضح هذه المعلومة لنفرض أنّك تعتقد أنّ الناس جميعها لا تحبُك ستشعر بالإحباط حول ذلك وستصبح انطوائي، سيراك الناس انطوائياً وستكون ردة فعلهم هي الابتعاد عنك، تراهم يبتعدون عنك وتكون بذلك قد حصلت على دليلٍ على معتقدك.

أخيراً..الاكتئاب مرضٌ جسدي ونفسي، فالعلاج الدوائي يُصلح ما يعاني منه الجسد والعلاج النفسي يتولى إصلاح النفس والروح، إذا لاح أمامك شبح الاكتئاب لا تتردد بزيارة المختصين والأطباء، ولا تنسى أنّ دواءك داخل رأسك، أنت شريك الأطباء في علاج نفسك، عندما تتعرف إلى المشكلة وتضع يدك عليها وتبدأ بتصحيح أفكارك ومعتقداتك, ستأخذ سلوكياتك المسار الصحيح وستجد الكثير ممن حولك يمدون لك حبل المساعدة لتصعد من بئر الاكتئاب، كن سيد أفكارك لا أسيرها.