لطالما راودت أحلام اختراق جدار الزمن والسفر عبر صفحات التاريخ نحو الماضي او المستقبل عقولنا كبشر، وشكلت هذه الفكرة مادة دسمة للمئات من افلام وروايات الخيال العلمي وكان ينظر إليها بوصفها أمراً مستحيلاً قبل ظهور اينشتاين ونظريته النسبية التي أكدت أمكانية تحقيق ذلك.

وبينما نحن بانتظار الآلة التي ستعيدنا للماضي بشكل محسوس لابأس عزيزي القارئ من أن نلقي نظرة خاطفة على كوننا الشاسع عندما كان فتياً باستخدام تلسكوب جيمس ويب (james webb) الفضائي الذي أعلنت ناسا عن إطلاقه في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر الماضي، والذي من المتوقع أن يمنحنا نظرة أدق للكون ويحاول الإجابة عن بعض الاسئلة الوجودية التي طرحها الانسان البدائي وهو يستلقي وينظر إلى السماء الصافية ليلاً: كيف بدأ الكون؟ هل نحن وحدنا في هذا العالم؟
في السطور التالية سنتعرف على أسباب الضجة الكبيرة التي صاحبت إطلاق التلسكوب في الاوساط العلمية وأوساط المهتمين بأخبار الفلك، إضافة إلى مواصفاته وآلية عمله.

الوريث الشرعي لتلسكوب هابل

وفقاً لوكالة ناسا يمثل تلسكوب جيمس ويب الاخ الاكبر لتلسكوب هابل الذي نسمع عن صوره واكتشافاته طوال الوقت، حيث تم إرسال مقراب هابل إلى الفضاء عام ١٩٩٠ وقدم صوراً رائعة مثل صورة deep field واكتشافات هائلة حول عمر الكون والمجرات البعيدة، ولكن بالمقارنة مع جيمس ويب يظهر هابل وكأنه مقراب بدائي ذلك يعود للأسباب التالية :

١. يدور هابل بمدار يبلغ ارتفاعه ٥٠٠ كم عن سطح الارض بينما جيمس ويب سوف يسبح في الفضاء على بعد ١.٥ مليون كم من الكرة الارضية.
٢. يبلغ قطر المرآة العاكسة لهابل ٢.٤ متر في حين يبلغ قطر مرآة جيمس ويب ٦.٥ متر وهو ما يضمن التقاط كميات أكبر من الضوء والتفاصيل.
٣. الميزة الجوهرية بين المقرابين هي أن جيمس ويب يمتلك قدرة الرؤية بالاشعة تحت الحمراء على عكس هابل الذي يرى الكون بالاشعة المرئية فقط والتي تبلغ نسبتها ٣٥% من أشعة الضوء عموماً وهذه أهم ميزة في جيمس ويب سنتطرق لها لاحقاً.

٤. تبلغ الفجوة الزمنية بين ما يراه هابل وما يستطيع جيمس ويب رؤيته ٣٠٠ مليون سنة بمعنى أن جيمس ويب سيرى الكون بشكل مبكر أكثر بـ ٣٠٠ مليون سنة.
فتخيل معي كمية المعلومات الثمينة التي سنتحصل عليها بهذه المواصفات الاستثنائية.

صورة توضح الفروق بين تلسكوب جيمس ويب وهابل

مواصفات تلسكوب جيمس ويب وظروف إطلاقه

بدأت الفكرة منذ التسعينات حيث أراد العلماء تنفيذ المشروع الذي سوف يلي هابل لاستكشاف الفضاء وتم تسميته بهذا الاسم تكريماً لـ (جيمس اريين ويب) الذي كان رئيس وكالة ناسا في الستينيات من القرن الماضي، وكان من المتوقع في البداية أن يكلف المشروع حوالي ٦٠٠ مليون دولار ولكن مع التطورات التكنولوجية وزيادة التوقعات والمهام الملقاة على هذه المهمة تضخمت الميزانية لتصل إلى ١٠ مليار دولار وهو رقم يعادل ميزانية دولة صغرى، كما وتأجل الاطلاق لعدة سنوات لمشاكل في الميزانية ومشاكل تقنية أخرى من عام ٢٠٠٧ كموعد مبدئي ليصل إلى عام ٢٠٢١ وقد شاركت وكالة الفضاء الاوروبية والكندية إضافة إلى ناسا في هذا المشروع بالاشتراك مع مئات الجامعات وعلماء من ١٤ جنسية.

أما عن مواصفات التلسكوب فتبلغ أبعاده حوالي ٢٢ متر طولاً و١٢ متر عرضاً ويبلغ وزنه حوالي ٧ طن ولديه درع واقي تبلغ مساحته مساحة ملعب تنس ومرآة عاكسة مطلية بطبقة رقيقة جداً من الذهب لتعكس الاشعة بشكل أفضل، ولكن هذه المواصفات من المستحيل حملها إلى الفضاء لأنها لا تتسع في أي صاروخ فضائي، لذلك لجأ العلماء إلى فكرة مجنونة وهي طي مكونات التلسكوب إلى أجزاء ليتمكن من الدخول في رأس الصاروخ ومن ثم نشرها في الفضاء وبالفعل حدث ذلك، حيث تم تقسيم مرآته العاكسة مثلاً إلى ١٨ قطعة سداسية الشكل تنفتح بشكل تدريجي في الفضاء وسيتم نشر تلسكوب جيمس ويب بالكامل بأكثر من مئة عملية متتالية في غضون ٢٩ يوماً من تاريخ إطلاقه وهذه الايام أطلق عليها العلماء تسعة وعشرون يوماً من الرعب لان أي خطأ بسيط في عمليات نشر المعدات سيؤدي إلى ضياع ١٠ مليار دولار وثلاثين عام من الجهد في غياهب الكون.

صورة توضح أجزاء تلسكوب جيمس ويب

كيف سيسافر بنا التلسكوب إلى الماضي

بعد أن تحدثنا عن ظروف ومواصفات التلسكوب المعروف اختصاراً ب jwst سنتعرف على آلية عمله، فكما ذكرت أعلاه فإن المقراب يعمل بالاشعة تحت الحمراء ومن دون الدخول في متاهات نظرية النسبية العامة ببساطة فإن النجوم والكواكب والمجرات القديمة جدا تبث موجات ضوئية تحت الحمراء حصراً وهذه الموجات لا يلتقطها أي تلسكوب موجود في الفضاء حالياً وباستخدام تلسكوب جيمس ويب سنتمكن من التقاط هذه الموجات وتشكيلها على هيئة صور مرئية وهذا يفسر كيف سيصور التلسكوب الكون بعد ٥٠ مليون سنة من الانفجار العظيم أي أنه سيرجع بنا في الزمن إلى ١٣.٦ مليار سنة.

وقد تتساءل صديقي العاشق لأخبار المجرات: لماذا لا يتم وضع هذا النوع من التلسكوبات على سطح الارض وتجنب هذه التكاليف الباهظة؟ الجواب بكل بساطة هو أن أي جسم في هذا الكون تفوق درجة حرارته الصفر المطلق يبث,  أشعة تحت الحمراء مما يؤدي إلى تشويش كبير في الصور التي سيلتقطها التلسكوب ولن نستفيد منها إضافة إلى التشويش الذي يحدثه الغلاف الجوي.

وهذا يقودنا إلى الجزء الاخير في هذا المقال كيف سيتفادى التلسكوب الاشعة تحت الحمراء التي تنبعث من اجهزته هو؟ الجواب يكمن في درعه الواقي المزود بصفائح ستقوم بتبريد درجة الحرارة المحيطة بالتلسكوب من ٨٥ درجة إلى -١٣٠ في غضون ٦ أشهر وهي حرارة مناسبة لالتقاط الاشعة، إضافة إلى المدار الذي سيوضع فيه التلسكوب وهو يدعى مدار لاغرانج
أو L2  ففي هذا المدار ينعدم تقريباً أي تشويش او جاذبية.

تلسكوب جيمس ويب وجوب الفضاء

وختاماً فإن الجميل في القصة عزيزي المهتم بعلوم الكون ودروب الفضاء والكواكب بأنك لست مضطراً لتعلم الفيزياء الكونية او قراءة الرادارات ولا حتى لارتداء بذلة الفضاء لكي تتمتع بالصور الساحرة للكون، ما عليك سوى الاستلقاء وانتظار ستة أشهر لكي يبدأ التلسكوب بإرسال الصور ويمكنك متابعة أخبار تلسكوب جيمس ويب عبر بعض القنوات الاخبارية العربية المهتمة بالخبر او بزيارة الموقع الرسمي للمهمة على هذا الرابط:

http://www.jwst.nasa.gov