تعتبر صناعة زيوت تشحيم المحركات من الصناعات الاستراتيجية الهامة في دول العالم المتقدم، ويزداد الطلب على زيوت التشحيم يوماً بعد يوم نظراً لاستعمالاتها وتطبيقاتها الكثيرة، فكل المعدات والآلات الميكانيكية والمولدات الكهربائية في المعامل والمصانع الإنتاجية المختلفة، وأيضاً كل محركات الاحتراق الداخلي في وسائل الموصلات، تحتاج للتشحيم لضمان عملها بكفاءة والحفاظ على جودتها وتقليل أعطالها لأطول فترة زمنية ممكنة.
سنسلط الضوء في مقالنا هذا على نشأة زيوت تشحيم المحركات وتركيبها الكيميائي، ووظائفها وخصائصها المختلفة، مع ذكر بعض الاختبارات المستخدمة في ضبط ومراقبة جودة زيوت التشحيم، وسنتطرق إلى المشكلات الصحية والتحديات البيئية التي تواجهنا عند التعامل مع زيوت التشحيم المستهلكة وأهمية إعادة تدوير هذه الزيوت بيئياً واقتصادياً.
تاريخ ونشأة زيوت التشحيم (الزيوت المعدنية/زيوت المحركات):
عُرِفت مواد التشحيم أو المزلقات منذ آلاف السنين، منذ اختراع الإنسان للآلات والمعدات وحاجته إلى مواد تقلل الاحتكاك بين أجزئها المختلفة، وكانت مواد التشحيم قديماً مصنوعة من مواد طبيعية كالدهون الحيوانية أو الزيوت النباتية. أما زيوت التشحيم البترولية فقد اعتُبرت منتجاً ثانوياً لتكرير النفط ولم تستعمل بشكل واسع إلا بحلول عام 1880م تقريباً.
لقد تقدمت معالجة زيوت التشحيم القائمة على البترول إلى الأمام في أواخر القرن التاسع، ففي السادس من أيلول عام 1866م تمكن الأمريكي جون إليس من تطوير مادة تشحيم مستخرجة من البترول بالكامل واستعملها في المحركات البخارية، وقد تميزت هذه المادة بلزوجتها العالية وقدرتها على العمل بكفاءة في درجات الحرارة المرتفعة.
مهد هذا الإنجاز الطريق نحو العمل على تصنيع زيوت تشحيم المحركات وتطويرها واستعمالها بشكل أوسع فيما بعد.
وفي عشرينيات القرن الماضي، بدأت الجمعية الأمريكية لمهندسي السيارات في تصنيف زيوت تشحيم المحركات وفقاً للزوجتها وكان لابد من تغييرها كل 800 إلى 1000 ميل، وفي نفس الفترة الزمنية تقريباً، بدأ مصنعو مواد التشحيم في استخدام عدة طرائق ومعالجات كيميائية لإزالة بعض المكونات غير المرغوب فيها.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي، تم إدخال مواد التشحيم وزيوت المحركات متعددة الدرجات.
وظهرت لاحقاً معالجات أخرى لتحسين أداء زيوت التشحيم، فتم إضافة مواد لمنع الأكسدة ومقاومة التأكّل وتحسين مؤشر اللزوجة وغيرها، مما ساهم بإطالة أداء وعمر خدمة زيوت محركات السيارات.
وتم في ما بعد تطوير مواد تشحيم مخصصة لصناعات الطيران والفضاء، وتلاها ذلك تطوير تقنيات أخرى.
ومنذ الأيام الأولى للقرن الحالي، واصلت تقنية زيوت التشحيم تقدمها لتطوير منتجات قادرة على تلبية الطلب المتزايد عليها، والأهم من ذلك تحسين الأداء والموثوقية.
وبطبيعة الحال فإن زيادة استعمال زيوت التشحيم ولّد مشكلة الزيت المستعمل وكيفية التخلص منه خاصة أن فترات التصريف كانت قصيرة نسبياً، وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى ظهور عمليات إعادة التدوير التي سنتحدث عنها لاحقاً.
التركيب الكيميائي وخصائص ووظائف زيوت التشحيم:
زيوت التشحيم Lubricating Oils – وتعرف أيضاً بزيوت التزييت أو التزليق، هي عبارة عن سوائل لزجة تستعمل لحماية الأجزاء المتحركة في آلات ومحركات الاحتراق الداخلي. تُستخرج زيوت التشحيم عادة من النفط الخام حيث تتألف عادة من زيوت الأساس بنسبة 90% أو أكثر أما النسبة المتبقية فهي عبارة عن مواد مضافة لتحسين الخصائص والأداء.
يكون التركيب الكيميائي لزيوت الأساس عبارة عن مزيج من الهيدروكربونات (الفحوم الهيدروجينية) البرافينية النظامية والمتفرعة والهيدروكربونات الحلقية ذات السلاسل الجانبية البرافينية المختلفة الطول، والمركبات العطرية أحادية ومتعددة الحلقات، مع مواد أخرى مُضافة كبولي ألفا الأوليفينات (PAO) أو الاسترات الصناعية أو بولي ألكنات الغليكول (PAG) وبولي رباعي فلورو الإتيلن (PTFE)، والسوائل الأيونية، وبعض المواد الصلبة اللاعضوية كالغرافيت وكبريتيدات الموليبديوم والتنغستين، وبعض الفلزات (المعادن) كالكادميوم والرصاص والقصدير، وغيرها من المواد المختلفة حسب نوع المُضافات. وأثناء استعمال الزيوت تتكون عدة شوائبK مثل: الماء، الحموض، الأوساخ، بقايا الفلزات والمواد الكيميائية. والتي يمكن أن تختلط مع الزيت وتجعله غير صالح للعمل.
يتم أثناء إنتاج هذه الزيوت إزالة المركبات غير المرغوب بها والحفاظ على المركبات الضرورية والتي تمكن من الحصول على زيت أساس يملك الخواص الفيزيائية والكيميائية التشغيلية المطلوبة ليقوم الزيت بوظائفه على أكمل وجه.
ويجب أن تتمتع هذه الزيوت بثباتية عالية تجاه الأكسدة داخل المحركات، وأن تتمتع بقدرة ضخ سريعة عند انخفاض درجة الحرارة لضمان تزييت أجزاء المحركات بصورة كاملة عند بداية التشغيل.
إن المواد الأخرى المضافة إلى زيوت تشحيم المحركات تساعد في جعلها تتحمل الضغوط العالية والظروف التشغيلية الصعبة ومن أهم هذه الإضافات المواد المانعة للأكسدة ومضادات التأكّل ومضادات الرغوة ومحسنات اللزوجة، والمبعثرات، والمواد المنظفة التي تعمل على التقاط الأوساخ ومنع وتقليل ترسيب المواد الإسفلتية والراتنجية على أجزاء المحرك والناتجة عن تفاعلات الاحتراق داخل المحرك.
إن الغرض الأساسي من استعمال زيوت تشحيم المحركات هو تزييت الأجزاء المتحركة وتسهيل الحركة الميكانيكية للمحركات والمولدات والآلات المختلفة، فتقلل الاحتكاك وتوفر الطاقة والوقود وتسرع الأداء وتحافظ على المعدات من التأكّل والاهتراء، كما أنها تسهم في تبريد المحرك أثناء التشغيل بتقليل درجات حرارة التشغيل، وتسهم في تنظيف المحرك من الملوثات المختلفة المتشكلة أثناء ذلك، وتعمل على تحييد الحموض المتشكلة في الزيت مع مرور الزمن، وتساعد في إحكام إغلاق حلقات المكابس والمعدات.
اختبارات ومواصفات زيوت التشحيم:
مع التطور المستمر الحاصل في تصميم المعدات والآلات والمحركات وما يرافق ذلك من تقدم تكنولوجي، أصبح ضرورياً تصنيع زيوت تشحيم المحركات بمواصفات عالية الجودة تعمل في الظروف التشغيلية القاسية بكفاءة وبكميات مناسبة تلبي الطلب المستمر.
ومن أجل ضبط ومراقبة جودة زيوت التشحيم تم اعتماد العديد من الاختبارات الفيزيائية والكيميائية والريولوجية.
وتوجد بالطبع معايير ومواصفات قياسية عالمية وإقليمية ومحلية توضّح الحدود الدُنيا لقيم المتغيرات المختلفة الواجب تحقيقها لاعتبار زيت التشحيم جيداً وصالحاً في صناعة أو استعمال ما.
ومن أهم هذه الاختبارات:
- كثافة الزيت Density.
- لزوجة الزيت viscosity وقرينة اللزوجة Viscosity index.
- نقطة الوميض Flash point.
- الرقم الحمضي الكلي Total Acid number.
- الرقم القلوي الكلي Total Base number.
- نقطة انسكاب الزيت Pour point.
- محتوى الرماد Ash Content.
وتوجد اختبارات أخرى لزيوت تشحيم المحركات كتحديد نقطة الغليان ونقطة التجمد وقابلة الاستحلاب والثبات الحراري والهيدروليكي، وتحديد كميات بعض المركبات والعناصر كالزنك والفوسفور والكبريت وغيرها.
المشكلات الصحية والتحديات البيئية للزيوت المستهلكة:
بالرغم من استجابة صناعة زيوت تشحيم المحركات لمتطلبات التقدم التكنولوجي بشكل جيد، إلا أن مشاكل جديدة بدأت بالظهور على المستويين الصحي والبيئي، فالملوثات التي تتراكم بفعل زيوت التشحيم المستهلكة تشكل خطراً كبيراً على البيئية، وفي نفس الوقت، تعد هذه الزيوت مصدراً غنياً بالهيدروكربونات يجب الحفاظ عليه واستثماره من الناحية الاقتصادية والبحث عن وسائل إنتاج أكثر كفاءة وفاعلية، والتقليل من الحاجة إلى النفط ومنتجاته، والذي ارتفعت أسعاره من جهة، ويعد مورداً طبيعياً غير متجدد وقابلاً للنضوب على المدى البعيد من جهة أخرى.
وقد ازداد في العقدين الأخيرين الاهتمام العالمي بمسألة إعادة تدوير النفايات، ومن ضمنها بالطبع زيوت التشحيم المستهلكة، فهي تمثل أكبر كمية من النفايات الخطرة السائلة وغير المائية في العالم نظراً لتركيبتها الكيميائية وانتشارها الواسع في وصعوبة التخلص منها بعد انتهاء استعمالها.
إن زيوت التشحيم المستهلكة تحوي مواداً مسرطنة ومواداً عالية السمية كالهيدروكربونات الهالوجينية ومن ضمنها ومركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCB) والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات ومواداً ملوثة كالفلزات.
وإن التخلص من الزيوت المستهلكة بإلقائها في أماكن الصرف الصحي له آثار مدمرة من خلال إعاقة عمل محطات معالجة مياه الصرف الصحي، كما أنه يسبب أضراراً جسيمة بالوصول إلى الأنهار أو البحيرات أو المناطق الساحلية.
تشير إحدى الإحصائيات إلى إن أكثر من 40% من التلوثات في الممرات المائية الأمريكية ناتجة عن زيوت التشحيم المستعملة للمحركات، وأنها من أكبر مصادر التلوث النفطي في الموانئ والممرات المائية الأمريكية.
ووفقاً لوكالة حماية البيئة الأمريكية، تمنع طبقات الزيت الموجودة على سطح الماء تجديد الأكسجين المذاب، وتضعف عمليات التركيب الضوئي، وتحجب أشعة الشمس مما يهدد الأسماك والطيور المائية وغيرها من الأحياء المائية.
كما أن التخلص من الزيوت المستهلكة في مكبات ومدافن النفايات يسبب تلوثاً للتربة، مع احتمال تسربها ببطء إلى جوف الأرض ملوثة المياه الجوفية. وإن حرق هذه الزيوت المستهلكة يُطلق ملوثات محمولة في الهواء ورماداً غنياً بالمواد السامة، وخاصة مركبات المعادن الثقيلة.
يعتبر قطاع السيارات أكبر مساهم في الزيوت المستهلكة (56%)، ويليه القطاع الصناعي (31%). ونظراً للكمية الكبيرة من الإضافات الكيميائية في زيوت محركات البنزين والديزل للسيارات، فإن الزيت المستخدم يعتبر ملوثاً للغاية.
وقد أصبحت مشاكل الزيوت المستهلكة الآن تقريباً قضية دولية حيث يجب على الحكومات بذل قصارى جهدها لمواجهتها من خلال سن القوانين واللوائح اللازمة. وإن برنامج الأمم المتحدة للبيئة واتفاقية بازل بشأن التخلص من النفايات ينشطان في برنامج استخدام الزيوت المستهلكة والتخلص منها.
إعادة تدوير الزيوت المستهلكة:
إن التفكير في طريقة للاستفادة من زيوت تشحيم المحركات المستهلكة وتقليل آثارها الضارة على البيئة أدى للجوء إلى عملية إعادة التدوير.
ويمكن تعريف إعادة التدوير بأنها العمليات الكيميائية والفيزيائية التي تجري على زيت التشحيم المستهلك بشكل كامل أو جزئي وتقوم على استخلاص الأجزاء المفيدة من الزيت المستهلك وفصل الماء والوقود ومخلفات المواد المُضافة، وتهدف إلى إعادة جعل الزيت قابلاً للاستعمال مرة أخرى.
وتقوم عملية إعادة التدوير بتنظيف الزيت المستهلك المحتوي على جسيمات عالقة ناشئة عن احتكاك الأجزاء المتحركة وكذلك المواد الكيميائية الناتجة عن عملية الاحتراق والتي تخفض من جودة أدائه في عملية التشحيم. وكذلك استخلاص المواد التي كانت مضافة إليه، ويسمى الزيت الذي ينتج عن عملية إعادة التدوير بزيت الأساس (Base Oil or Stock Oil) حيث يضاف إليه زيت تزليق أصلي ومواد أخرى تحوله لزيت تزليق صالح للاستعمال مرة ثانية في تشحيم المحركات والآلات.
وحالياً تعتبر تقنيات إعادة التدوير هي الأفضل في التصدي للمخاطر البيئية التي يسببها التخلص العشوائي من زيوت تشحيم المحركات المستهلكة، وبالإضافة إلى ذلك تعتبر تقنيات إعادة التدوير للزيوت النفطية وسيلة فعالة للحفاظ على احتياط الخام في العالم، وإيجاد فرص عمل من خلال بناء وتشغيل محطات التدوير.
هذا ويعد حرق الزيوت المستهلكة من أجل الوقود واستخلاص الطاقة أحد أكبر المنافسين لصناعة إعادة تدوير الزيوت المستهلكة. إلا أن النتائج تدل على أن إعادة تدوير الزيوت المستهلكة تنتج ملوثات جوية أقل وتستهلك طاقة أقل، كما أنها تمثل فرصة اقتصادية لإعادة تدوير مواد منخفضة القيمة وتحويلها إلى منتجات بترولية عالية القيمة وبانعكاسات أقل تأثيراً على البيئة.
إقرأ أيضاً: مستقبل السيارات الكهربائية: هل تختفي السيارات التي تعمل بالوقود؟
التعليقات 1
اضف تعليق