بلغ التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية مستوياتٍ قياسيةً منذ أربعين عاماً، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 8.6% في أيار/مايو لعام 2022 بزيادة تفوق مستوياتها لنفس الفترة من العام الماضي وبمعدل أعلى بكثير من النسبة التي توقعها الاقتصاديون، مما دفع البنك الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة مجدداً بمعدل 50 نقطة أساس في محاولةٍ لمواجهة هذا التضخم بعد أن رفعها في آذار/مارس بنسبة 0.25% أي ما يعادل 25 نقطة أساس، ليعيد رفعها في حزيران/يونيو بمقدار 75 نقطة وبعدها في تموز/يوليو بمقدار 75 نقطة لتأتي الزيادة الخامسة في أيلول/سبتمبر بمعدل 75 نقطة إضافية ليصل لمستوى 3.25%.هذه الزيادات في أسعار الفائدة الأمريكية أدت إلى ارتفاع قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى لمستويات قياسية لم تشهدها الدول منذ الثمانينات، الأمر الذي دفع هذه الدول للتحرك وقام صانعي السياسات فيها بالتدخل لمواجهة هذا الارتفاع وبدأ ما يسمى بحرب العملات العكسية.
فما هي حرب العملات العكسية ولماذا قررت الدول الأخرى الدخول فيها؟ وكيف يؤثر سعر الصرف على معدل التضخم؟ وكيف تؤثر حرب العملات العكسية على اقتصادات دول العالم عامةً والنامية بما فيها الدول العربية خاصةً؟ هذا ماسنستعرضه تالياً.
ما هي حرب العملات العكسية .. وكيف بدأت؟
حرب العملات بمفهومها التقليدي (أو كما كان يُطلقُ عليها خبراءُ الاقتصاد لفترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ): هو خفض القيمة التنافسي Competitive Devaluations أي تخفيض قيمة العملة لتعزيز قوتها التنافسية في الأسواق الأجنبية بمعنى أنَّ انخفاض قيمة العملة سيؤدي لزيادة الصادرات لانخفاض سعرها وبالمقابل سيسبب ارتفاع قيمة الواردات مما يجعل البضائع المصنَّعة محلياً أرخص وهذا يخدم المنتجين المحليين ويؤدي لدفع عجلة النمو الاقتصادي في البلاد.
أما حرب العملات العكسية فهي تعني قيام البنوك المركزية للدول بدعم أسعار صرف عملاتها مقابل الدولار من خلال التدخل إما ببيع احتياطاتها الدولارية أو رفع أسعار الفائدة بهدف السيطرة على التضخم بدلاً من زيادة النمو الاقتصادي.
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية حرب العملات العكسية هذه عندما قامت برفع أسعار الفائدة مما أدى لرفع سعر الدولار وجعله مهيمناً على باقي العملات، حيث بلغت هذه الزيادة أكثر من 7% في الشهور الست الأخيرة من تشرين الثاني/ديسمبر 2021 ولغاية 20 تموز/جون 2022، في الوقت الذي حاولت أنْ تُظهِرُ فيه أنَّ هذا الارتفاع لم يكن مقصوداً كما بيَّنتْ تصريحات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حين أعلنَ أنَّ الهدف من رفع أسعار الفائدة هو محاربة التضخم وليس رفع قيمة الدولار، وذلك كي لا يتم اتهامها بالتلاعب بالعملات على غرار ماحدث في الصراع الصيني الأمريكي في عهد الرئيس دونالد ترامب حين قامت الصين بتخفيض قيمة اليوان الصيني لتضمن زيادة صادراتها إلى دول العالم ورفضت طلب الولايات المتحدة لها برفع قيمة اليوان الأمر الذي دفع بالأخيرة لتصنيف الصين دولةً متلاعبةً بالعملات وذلك في 5 آب/ أغسطس 2019،
بالعودة إلى الوقت الحالي فإنَّ ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية سيجذب تدفقات رؤوس الأموال إلى الولايات المتحدة وسيقوي الدولار أكثر مما يسبِّبُ بقاء النمو الاقتصادي العالمي دون المستوى الذي يجب أن يكون عليه، وبالتالي فالاختلالات ستظهر في الاقتصاد العالمي هذا الأمر دفع بعض الدول للوقوف في وجه هذا الارتفاع كماحدث في الثمانينات من القرن الماضي، وفي هذا السياق يقول خبير الأسواق جورج بوبوراس بحسب مانقلته بلومبرغ: “إنَّه سيناريو نفسي في الوقت الحالي لأنَّ العالم أصبح أكثر انقساماً اليوم مما كان عليه في الثمانينات وفرص التنسيق العالمي لإضعاف الدولار قريبة من الصفر، نتوقع رؤية المزيد من حروب العملات العكسية.”
أسعار الفائدة الأمريكية واتفاق بلازا 1985م:
في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ارتفع معدل التصخم في الولايات المتحدة ليتخطى حاجز 13.5% عام 1980م وهو أعلى مستوى يصل له منذ الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك بسبب الافراط في الانفاق الحكومي وزيادة أسعار النفط، عندها تعهد رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي بول فولغر برفع أسعار الفائدة بشكل عنيف في محاولة لكبح جماح هذا التضخم وبالفعل بدأ برفع أسعار الفائدة الأمريكية لتصل إلى 20% في عامي 1980 و 1981م بالتالي ارتفع سعر الدولار مقابل العملات الأخرى بمعدل 47% ومن هنا بدأت الاختلالات تظهر في الاقتصاد العالمي وقررت بعض الدول الوقوف في وجه هذا الارتفاع وإعادة التوازن لميزان التجارة العالمي.
يضاف لذلك الضغط على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ريغان من بعض المصدريِّن الأمريكيين والشركات الكبرى وخاصةً في قطاعات الزراعة والتكنولوجيا والسيارات والخدمات شاركت فيه شركات مثل آي بي إم IBM وموتورولا Motorola وكاتربيلر Carter-pillar Inc مطالبةً بخفض قيمة الدولار للحماية من المنافسة الأجنبية للبضائع الأمريكية، وفي الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 1985م اجتمع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لدول مجموعة الخمس G5، التي تضم كلاًّ من (فرنسا، ألمانيا الغربية، الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، اليابان) وذلك في فندق بلازا بمدينة نيويورك وتم توقيع اتفاقية بلازا التي نصَّت على خفض قيمة الدولار بمعدل 40% أمام عملات هذه الدول الخمس وعلى مدار عامين عن طريق التدخل المباشر في سوق العملات.
استمرت هذه الاتفاقية مدة عامين حتى 1987م حيث لم تشأ الولايات المتحدة خفض قيمة الدولار أكثر فتم توقيع معاهدة اللوفر لوقف هذا الانخفاض واستقرار سعر الصرف.
كيف يؤثر سعر صرف العملات في معدل التضخم؟
إنَّ جزءً كبيراً من ارتفاع معدل التضخم في معظم اقتصادات العالم بما فيها الاقتصاد الأمريكي يرجع لأسبابٍ خارجيةٍ كإغلاق الصين بسبب جائحة كورونا وارتفاع أسعار الغذاء والنفط بسبب الحرب على أوكرانيا واستمرار اضطرابات بعض سلاسل الإمداد ومشاكل الشحن مما أدى لارتفاع أسعار المستوردات، وبالتالي فإنَّه عند ارتفاع قيمة العملة المحلية ستنخفض قيمة الوارادت وتتعزز القوة الشرائية للمواطنين في الداخل.
أمَّا تأثير معدل الصرف على التضخم فيقاس بمؤشرٍ يسمى معدل التمرير أو المرور Pass Through Rate، أي عندما يكون التضخم ضعيفاً يتوقع أن تؤدي الزيادة بنسبة 10% في قيمة الدولار إلى خفض التضخم بنسبة نصف نقطة مئوية فقط ولكن في ظل الوتيرة الحالية للتضخم سيسهم بالخفض بنسبة قد تقترب من درجة مئوية واحدة (بحسب الخبير ناثان شيتس كبير الاقتصاديين في سيتي غروب).
إجراءات الدول في حرب العملات العكسية:
بدأت الدول باتخاذ إجراءاتها لمواجهة قوة الدولار ومحاربة التضخم حيث قام البنك الكندي برفع معدل الفائدة الأساسي بمقدار 100 نقطة أساس من 1,5% إلى 2,5% وهذه أكبر زيادة على معدل الفائدة الأساسي في كندا منذ آب (أغسطس) 1998، كذلك رفع البنك المركزي السويسري أسعار الفائدة 75 نقطة أساس للمرة الثانية على التوالي خلال الربع الثالث من العام 2022، إلى مستويات 0.5% من -0.25%.
أما أسعار الفائدة في بريطانيا فوصلت ل2.25%، وفي الاتحاد الأوروبي ارتفع سعر الفائدة 75 نقطة أساس لأول مرة منذ عشر سنوات ليصبح في 19 دولة تشارك اليورو فوق 1.5%، كما قرر مجلس السياسة النقدية الياباني الإبقاء على سعر الفائدة السلبية عند مستوى سالب 0.1% على الحسابات الجارية التي تحتفظ بها المؤسسات المالية لدى البنك المركزي وهو أول تدخل من نوعه منذ عام 1998م، وتواصل الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تعزيز دفاعها ضد الدولار من خلال تثبيتات أقوى من المتوقع في أسواق العملات الأجنبية.
هذه الاجراءات أدت إلى رفع قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار ليصل إلى 1.16 دولار في 27 تشرين الأول، واستقر الين الياباني عند 146 للدولار الواحد، أما اليورو فعاد ليتعادل مع الدولار، واستقر الدولار الكندي عند 1.36 لكل دولار أمريكي، والفرنك السويسري عند 1.01 دولار أمريكي، وبالمقابل انخفض اليوان الصيني في الخارج لأدنى مستوى له منذ خمسة عشر عاماً ليصل إلى 7.25 يوان للدولار الواحد.
ويجدر بالذكر أنَّ بعض الدول العربية قامت برفع أسعار الفائدة وهي الدول النفطية التي ترتبط عملاتها بشكل مباشر بالدولار الأمريكي وذلك كي لا تفقد عملتها المزيد من قيمتها، لتصبح كالتالي: الإمارات 4.5%، السعودية 2.94% ، الأردن 5.25%، البحرين 5.25%، قطر 4.5%، الكويت 3%. وصرَّحت وكالة موديز لخدمات المستثمرين الاثنين 24 تشرين الأول/أوكتوبر أنَّ الميزانيات القوية للشركات الخليجية تساعد على امتصاص أسعار الفائدة المرتفعة مع تحسن اقتصادات النفط بدعم ارتفاع أسعار النفط، وأضافت أنَّ الشركات ذات التصنيف الاستثماري في منطقة الخليج ستحافظ على نسب تغطية فائدة قوية للغاية على الرغم من زيادات أسعار الفائدة.
من المتضرر الأكبر من حرب العملات العكسية هذه؟
حرب العملات العكسية بدأت بالفعل وفي حال استمر ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وبقي الوضع على هذا المنوال فإنَّنا سنشهدُ تقلباتٍ عنيفةً في قيمة العملات المهيمنة مترافقةً باضطراباتٍ اقتصاديةٍ، على حسب تصريح وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين في الاجتماع السنوي لاتحاد الأسواق المالية وصناعة الأوراق المالية الأمريكي الذي أقيم في نيويورك، حيث قالت: ”في حين يتمتّعُ النظام المالي الأمريكي بالمرونة حالياً فإنَّ الظروف الحالية تخلق ظروفاً قد تؤدي إلى ظهور مخاطر تهدد استقرار النظام المالي“، وأضافت: ”إنَّ البيئة الحالية خطرةٌ ومتقلبةٌ بالنسبة للاقتصاد العالمي بما في ذلك ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة التقلبات في الأسواق المالية، وفي هذه البيئة يمكن أن تظهر المخاطر التي تهدِّد الاستقرار المالي.“
بالتالي ستتحوَّل هذه الأعباء إلى الدول الأضعف والتي لا يساعدها اقتصادها على دخول هذه الحرب وبالأخص الدول النامية ومنها بعض الدول العربية مثل: (تونس، سوريا، اليمن، مصر، لبنان) فهي إما دول غير نفطية وتعتمد على الاقتصاد الريعي أو أنَّها تعاني اضطراباتٍ سياسيةً وأمنيةً وتعتمد على المساعدات الخارجية إضافةً إلى ديونها السيادية بالدرجة الأولى حيث من المرَّجح أن تقع تحت خطر ما يسمى (عدم تطابق العملة Currency Mismatch) لأنَّها ستضطر لإعادة ديونها بقيمة أكبر من قيمة الدين الأصلي بسبب انخفاض قيمة عملتها مقابل عملة الاقتراض مما قد يعرضها لخطر الإفلاس.
في حين تشير التقارير أنَّه في النصف الثاني من عام 2021م مثَّلت المطالبات بالدولار الأمريكي مايعادل 54.78% من إجمالي احتياطات النقد الأجنبي في العالم، وكانت حصة الدولار من إجمالي المدفوعات عبر سويفت لعام 2022م قد بلغت 35.85% يليها اليورو بنسبة 37.79% ثم الجنيه الاسترليني 6.76% والين الياباني 2.71%، تُطرح التساؤلات التالية: هل سيستمر الدولار في الارتفاع أم أنَّنا أمام اتفاق بلازا ثاني؟ هل سيواجه العالم ركوداً اقتصادياً ؟ وفي ظل تقلبات الأواق المالية العالمية وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء هل ستصمد الدول النامية والعربية؟
التعليقات 0
اضف تعليق